مفهوم التأمين التعاوني بين الأطراف التأمينية
تلقيت عديدا من الاستفسارات بعد مقال الأسبوع الفائت، الذي كان عنوانه "منطلقات شرعية قبل الحكم على التأمين الصحي التعاوني". من أهم النقاط التي لم يتسنَّ لي الإشارة إليها على الرغم من أهميتها؛ هل من الممكن تحقيق مفهوم التأمين التعاوني بين الأطراف التأمينية؟
لا شك أن مفهوم التعاون في التأمين أُسهب الحديث حوله خصوصا في المرجعيات الشرعية والاقتصادية. لكن ما لم يثر الحديث حوله بالمقدار نفسه، إشكالية تحقيق مفهوم التعاون في التأمين الصحي. هذه الإشكالية ليست مقتصرة فقط على تحقيق مفهوم التعاون من الناحية المالية ـــ على الرغم من أهميتها ـــ لكن على تحقيق معنى التعاون بين الأطراف التأمينية خصوصا الأطراف الثلاثة: المؤمِّن "الشخص الذي لديه تأمين" وشركة التأمين ومزود الخدمة العلاجية "المستشفى". فهذه الأطراف الثلاثة لا بد أن يكون التعاون أساس العلاقة فيما بينها، لأن تحقيق مفهوم التعاون مرتبط ارتباطا وثيقا بنجاح هذه الأطراف في إقامة علاقة تعاونية حقيقية. المشكلة التي يعانيها الأطراف الثلاثة جميعها، أن كل طرف يتربص بالطرف الآخر، فهي علاقة يمكن اختصارها في أن كل طرف يقول للطرفين الآخرين أنا أربح وأنتما تخسران. لذا فإن عدم التكامل بين الأطراف الثلاثة يصعب معه تحقيق مفهوم التعاون في التأمين الصحي.
فمن جهة الشخص المؤمِّن، فهو يسعى لاستنفاد كل الطرق الكفيلة لأجل تحقيق استفادة قصوى من التأمين بعيدا عن حاجته الفعلية إليه. فمثلا يسعى من لديه تأمين صحي لزيادة استخدامه للخدمات الصحية، عبر زيادة زيارات الطبيب وطلب عمل كل التحاليل والإجراءات الطبية اللازمة وغير اللازمة. هذا السلوك من قبل المؤمِّن يتسبب في زيادة الطلب على الخدمات العلاجية بصورة عالية جدا، ما يؤدي إلى نمو الطلب على الخدمات الصحية بصورة لا تعكس الاحتياج الفعلي للخدمات الصحية. الأدبيات العلمية أكدت أن استخدام الخدمات الصحية لمن لديهم تأمين صحي، أكثر من الأشخاص غير المؤمِّنين بغض النظر عن المؤثرات الأخرى كالعمر أو الجنس أو غيرهما. فاقتصاديات الصحة تعبر عن زيادة الطلب على الخدمات الصحية لمن لديهم تأمين صحي بمصطلح Moral Hazard بمعنى أن سلوكيات من لديهم تأمين صحي تتغير من أجل تحقيق استفادة قصوى من الخدمات الصحية المغطاة في بوليصة التأمين الصحي. لذا تعمل شركات التأمين على تقليل سوء استخدام الخدمات الصحية عبر مشاركة المؤمِّن في الفاتورة العلاجية عن طريق co-payment or co-insurance. لكن يظل التحكم في إساءة من لديه تأمين صحي غير ممكن بصورة عملية. فالشخص المؤمِّن ينسى أو يتناسى أن سلوكياته تخالف مفهوم التعاون المبني في أساسه على المشاركة بين جميع الأطراف وليس من أجل تحقيق منفعة شخصية ذاتية.
أما بالنسبة للطرف الثاني في المعادلة التأمينية فهو مزود الخدمة العلاجية، الذي من المفترض أن يقدم الخدمة العلاجية لمن يحتاجها بمعزل عن حالة المريض التأمينية أو قدرته على دفع التكلفة العلاجية. من المؤسف أن الدراسات العلمية تؤكد حقيقة أن المراكز العلاجية سواء مستشفيات أو مراكز صحية تتعامل إكلينيكيا بصورة مختلفة بين من لديهم تأمين صحي ومن ليس لديهم تأمين صحي. فمن لديهم تأمين صحي يخضعون لمزيد من التحاليل الطبية غير الضرورية والأشعة الصوتية والمقطعية والرنين المغناطيسي أكثر من الأشخاص الذين ليس لهم تأمين صحي. كما أنه من المؤسف جدا أن القرارات العلاجية للطبيب تتأثر بمعرفة هل المريض لديه تأمين صحي أم لا؟ فمثلا عند احتمال حاجة المريض لإجراء عملية أو إجراء طبي معين بنسبة ضئيلة، فإن الطبيب سيسعى لإجرائها ولا يتبع البروتوكول العلاجي، بسبب كون الحالة الصحية مغطاة طبيا. فإحدى الدراسات العلمية أوضحت أن النساء اللاتي لديهن تأمين صحي يجرين عمليات قيصرية أكثر من النساء اللاتي ليس لديهن تأمين صحي.
ومن المعلوم أن تكلفة إجراء العملية القيصرية تعادل تقريبا ضعف تكلفة الولادة الطبيعية. أما بالنسبة للطرف الثالث وهو شركات التأمين، فإن شركات التأمين تسعى لمنع الموافقة لتلقي العلاج لبعض الحالات الصحية التي تحتاج إلى علاج صحي. فشركات التأمين كانت الأعلى من حيث عدد الشكاوى المرفوعة لمجلس الضمان الصحي التعاوني ـــ حسب التقارير الصادرة من المجلس للأعوام الماضية. شركات التأمين الصحي تنظر للمبالغ المستقطعة من المستفيدين على أنها كسب وأرباح، لذا فهي تحاول الاستفادة من المبالغ المستقطعة دون توفير الخدمة المتوقعة منها. لا شك أن غياب مفهوم التعامل بمبدأ إحسان الظن أو النية الصادقة بين الأطراف التأمينية أدى إلى عدم رضى جميع الأطراف التأمينية، لأن كل طرف يعتقد أنه الخاسر الأكبر في هذه العلاقة. لذا فتحقيق مفهوم التعاون شبه مفقود بين الأطراف الثلاثة جميعها، مما يجعل تحقيق مفهوم التعاون فيما بينها شبه مستحيل. فإذا كان تحقيق مفهوم التعاون غير ممكن على أرض الواقع، فإن تحقيق مفهوم التأمين التعاوني بصورة كاملة غير واقعي أيضا.
فمن أجل ذلك فإني أعتقد أن الحكم بجواز التأمين التعاوني من عدمه ليس مرتبطا فقط بالنظرة المالية لكيفية التحكم في رأس المال لشركة التأمين، وإنما أيضا بكيفية التأكد من تكامل العلاقة بين الأطراف الثلاثة، وأن المصلحة من وراء هذه العلاقة تعاونية أو مجتمعية لا مصلحة شخصية أو فردية.