«نزاهة» وتكبيل الذات

يبدو لي أن ممارسة الفساد في بلادنا أسهل من مطاردته، ومن ثم القضاء عليه. ويبدو لي أيضا أن بطون الفاسدين ممتلئة بالبطيخ الصيفي، فلا هم خائفون من هيئة مكافحة الفساد، ولا هم يحزنون. ويبدو للجميع أن القطط السمان أقدر من "نزاهة" في تحديد الثغرات التي تمكنهم من ملء بطونهم بالسحت، وعلى حساب تنمية هذا الوطن العظيم. إلى هذه اللحظة ما زال التشهير بالفاسدين يخضع للجان والدراسات والنقاشات والتوصيات وغير ذلك من الإجراءات البيروقراطية التي لا تتناسب مع ضرورة تمرير التشهير كأداة للردع. وإلى هذه اللحظة ما زالت هيئة مكافحة الفساد تطالب الجهات الحكومية المختلفة بتقديم الموظف المتسبب في التأخير على استفساراتها، لكي يتم التحقيق معه ومن ثم معاقبته. والهيئة بذلك تكرس مفهوم "كبش الفداء"، فالحقيقة أن المسؤول الأول عن الجهة الحكومية، وزيرا كان أو غيره، هو من يقوم بالتأخير في الرد على الاستفسارات، وهو من يوجه ويأمر بذلك. ولا أفهم لماذا لا تعلن هيئة مكافحة الفساد للملأ عن هذه الجهات الحكومية المجهولة، كما لا أفهم أن تقوم "نزاهة" بالاستفسارات، فالأَوْلَى بـ"نزاهة" أن تقوم بجولة تفتيشية ميدانية للتحقق مما استفسرت عنه، وللتأكد من سلامة وضع هذه الجهة الحكومية أو تلك.
وبعد ثلاث سنوات من العمل، لماذا لا تقوم "نزاهة" بالإعلان عن نتائج صولاتها وجولاتها لمكافحة الفساد. ما الذي تم إنجازه على أرض الواقع؟ وكم المبالغ التي تم الكشف عن "تسربها" في مستنقع الفساد القذر؟ وما المشاريع المتعثرة التي أسهمت "نزاهة" في اكتمالها؟ ولأي الوزارات تتبع؟ ومن المستفيد من هذا التعثر أو ذاك؟ ويا ليت لو تعلن "نزاهة" عن الثغرات القانونية التي استغلها خبراء الفساد لتمرير فسادهم! وكيف أسهمت "نزاهة" في سد هذه الثغرات الإجرائية والقانونية التي نعانيها جميعا؟ وما الدورات التدريبية التي قدمتها "نزاهة" لموظفي القطاع العام لزيادة وعيهم بأهمية الدور المنوط بموظفي الدولة، وعلى جميع الأصعدة لمكافحة آفة الفساد؟
كما نود أن نعرف ما خطة "نزاهة" للعمل في السنوات الخمس المقبلة؟ وهل لدى "نزاهة" خريطة تحدد المواقع الخطيرة المحتمل وقوع الفساد فيها؟
أكاد أجزم لو أن "نزاهة" ركزت جهودها لحل الثغرات القانونية التي يستغلها أباطرة الفساد لاختفى معظم الفساد. وأكاد أجزم لو أن "نزاهة" ركزت على استهداف ذوي الثروات الفاحشة من موظفي القطاع العام والشركات التي تملك الدولة بها حصصا مؤثرة، واكتفت بتوجيه السؤال القديم (من أين لك هذا؟) لقلة سطوة القطط السمان على الأموال التي لا حق لهم فيها. شخصيا؛ استمعت لرئيس "نزاهة" في إحدى الندوات يؤكد أنه لا ضغوط على "نزاهة" للتأثير في أعمالها، ولكن يبدو لي أن الوقت قد حان للبدء بالضغوط على "نزاهة" لإنجاز المسؤوليات المنوطة بها. فينبغي ألا يكون أحد فوق المساءلة بما في ذلك "نزاهة".
لا نريد للفرحة والتفاؤل التي عمَّت أنحاء الوطن بتأسيس هيئة مكافحة الفساد، أن تتحول إلى إحباط وتشاؤم وندرة وسخرية. ولا نريد أن نرى جهودا مبعثرة غير مدروسة وغير ملموسة النتائج تجتاح الإعلام. ولا نريد أن نرى الأدوات التي تمكن "نزاهة" من القيام بمهامها تتعثر في إجراءات بيروقراطية نحن في غنى عنها. ولا نريد هللة من المال العام تتسرب في وحل الفساد الموبوء. ولا نريد أن نقرأ ونسمع عن تجارب دول أقل منا إمكانية وأكفأ منا على محاصرة الفساد، فنحن نستحق أن نكون في الريادة في هذا المجال. إن الدعم اللامحدود الذي قدمته القيادة الحكيمة في بلادنا لهيئة مكافحة الفساد لا يدع لها عذرا في دفن مستنقع الفساد الموبوء. نريد أن تكون النتائج ملموسة على أرض الواقع. وعلى "نزاهة" تغيير استراتيجية عملها، فتكفي ثلاث سنوات مهدرة بلا نتائج ملموسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي