هل مات ميكافيلي؟

لقد تم وصم ميكافيلي بمقولتيه المشهورتين "الغاية تبرر الوسيلة" و"فرق تسد". فهل ابتكر ميكافيلي هاتين المقولتين أم استنبطهما من تأمله لأحداث عصره ومسيرة التاريخ وسلوك الزعامة؟ الاستنباط قد يكون هو الأقرب.. دون أن يعني ذلك روحا شريرة دفعته للقول بهما، كما لن يعني إعفاءه من وضعهما تحت نظر الخبث السياسي.
الميكافيلية كانت سارية المفعول قبله، مثلها مثل المؤامرة والدسائس، ومن يتأمل ما تفعله الدول والزعماء والساسة فلن يستطيع إنكار ذلك، بل هي تكاد تكون ظاهرة في كل أشكال الإدارات، وحتى في سلوك الأفراد العاديين في المحيط الاجتماعي بدوافع مصلحية أو عاطفية.
غير أن في العصر الحديث بسبب انعكاسات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي دفعت بالممارسات الميكافيلية المباشرة الخشنة لأن تكون غير مباشرة تناور وتداور لتمرير سلوكياتها.. ومع تنامي فاعلية حقوق الإنسان والمجتمعات المدنية استطاعت تلك أن تدين الميكافيلية بالوضاعة في فضاء الإعلام، والثقافة، وتدينها على نحو عملي من خلال منظومة القيم والمبادئ التي قامت عليها المنظمات والهيئات الدولية الحكومية والخاصة.
كانت حروب الخليج الثلاث مثالا صارخا لميكافيلية حديثة، أعطى لها الخوميني وصدام الذريعة لحدوثها بعقلية تهجير الثورة من قبل الأول وعقلية استعادة الجزء إلى الكل من قبل الثاني.. فالغاية من قبل الغرب كانت إنهاك المنطقة وشرذمتها لاستتباعها له، يضرب الجارتين ببعضهما وتوريط دول الخليج بالتمويل على حساب تنميتها. والوسيلة لذلك الدفع في اتجاه استغلال ما بين الزعامتين من ثأر، من ناحية، وهوس في الهيمنة من ناحية أخرى، وإلا فكيف بادر الغرب أساسا إلى إعادة الخوميني من فرنسا لإيران على طائرة خاصة محروسا بغطاء جوي لتأمينه استدرج ليسرق الثورة خصوصا والغرب على يقين بما كان يبيته، والأمر نفسه مع صدام حين استدرج بضوء أخضر من دبلوماسية أمريكية أوحت له بأن أمريكا لا شأن لها بحقه التاريخي في الكويت فاشتعلت حرب الثماني سنوات بكل مآسيها ثم حرب تحرير الكويت فحرب أكذوبة أسلحة الدمار الشامل.. لقد كانت الميكافيلية في تلك الحروب ناعمة ثم عنيفة لكن بغطاء دولي دفع الحرج إلى مجرد اجتهاد في التفسير والتبرير، فلو لم يكن الإنهاك والشرذمة غاية وكانت الغاية تهذيب النظامين لكان بالإمكان تجنب تلك الحروب بأدوات أخرى.
الحماس الذي أبداه الغرب للوقوف إلى جانب الإخوان المسلمين وتدافعهم للمرافعة لمصلحة الرئيس المعزول محمد مرسي لا يمكن أخذه على أنه غيرة ديمقراطية على من لا يؤمنون أصلا بالديمقراطية، فما بالنا بالغيرة على مصر كوطن والإسلام كدين؟! لكنها ميكافيلية ناعمة تهمها مصلحة إسرائيل وأمنها اللذين ضمنهما لها الإخوان ليس على مستوى الخطاب السياسي بالبرهان الفعلي بتدجين (حماس) وإنما من منطلق أيديولوجي، حيث لا يشكل الوطن عند الإخوان أساسا للسيادة بقدر ما يشكل هوس الهيمنة على السلطة هدفا حيثما كانت عربيا وإسلاميا. (ألم يقل مرشدهم: طز في مصر؟).
الأمر نفسه يحدث في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فالميكافيلية الناعمة تهادن كوريا الشمالية ولكنها تدير حربا في أفغانستان وباكستان بذريعة محاربة الإرهاب لا صناعة التنمية، وتدفع برجال المال وأصحاب الشركات لوضع هذا الزعيم أو ذاك في أمريكا اللاتينية، وحينا آخر تضعه المخابرات.. تتغير الأدوات واللعبة الميكافيلية نفسها قائمة، غير أنها لم تعد بالغشامة المباشرة.. ليس لأن الميكافيلية تأنسنت، بل لأن العالم أصبح قرية، فمهما كان للعولمة من سلبيات فقد جعلت الإنترنت والفضائيات للمواثيق والمبادئ الدولية وأبرزها حقوق الإنسان حناجر عالية الصوت وأعينا مفتوحة لا تتيح للميكافيلية أن تستر عريها كما كان الحال في السابق، فرغم كل ما يجري اليوم من بشاعات وأهوال، فالإدانة تصدر صاخبة عن الجميع، ما يفقد الميكافيلية قدرتها على التمادي دون فضح أو حساب.. ولعل هذا كفيل باستشعار الأمل بغد أفضل.. أكثر أمنا واستقرارا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي