القطاع الإسكاني .. الرؤية والإنجازات والأداء

اقتصاديا يعتبر السكن من السلع فله سوق وسعر يحددان بناء على قوى العرض والطلب، وهنا يبدأ السؤال المهم حول، من يتحكم في الأسعار؟ فالأصل أن تبقى السوق حرة وفق آلياتها الطبيعية. تدخل الدولة سيقود حتما إلى اختلال عمل هذه السوق وسيؤثر على سلوك المجتمع ومن ثم تعميق الاختلال في عمل آلية العرض والطلب، حتى تصعب معالجتها.
ما حدث في المملكة خلال سنوات الطفرة النفطية الأولى في سبعينيات القرن الماضي، تعكس هذه الحقيقة الاقتصادية، حيث تدخلت الدولة مباشرة في السوق، على أساس أن السكن خدمة اجتماعية ملزمة بها الدولة، فتم منح أراض مجانية بمساحات واسعة جدا وقروض مجانية، “بلا آلية صارمة للسداد”، مما أوجد انحرافا شديدا في جانب الطلب، كما أوجدت تشوهات في الحاجة الاجتماعية للسكن، وطرق البناء وتصورات الناس عن التكلفة والمنفعة. بعد انتهاء سنوات الطفرة تلك، تراجعت قدرة الدولة على دعم السكن، لكنها لم تقم حينها بالتدخل لتصحيح الاختلال الذي أصاب السوق، بل تركت السوق تعود إلى آليتها الطبيعية بلا سيطرة. في هذا الوقت كان النمو السكاني يتزايد، واستمرت المشكلات حول مفاهيم البناء والحاجة، كما تدخلت الأمانات بطريقة لم تصحح هذا الاتجاه، بل عززته بمنع نماذج جديدة من البناء داخل المدن، مع زيادة الاشتراطات على المخططات التي يتولى القطاع الخاص تطويرها، مع استمرار في منح أراضٍ شاسعة حتى في خارج النطاق العمراني، ودون دعم في الخدمات أو خطة واضحة لذلك. فبقيت الاختلالات عميقة في اقتصاد السكن في المملكة، مع تراجع كبير في العرض. ظهرت علامات الطفرة النفطية الثانية في منتصف العقد الماضي، وفتح الباب على مصراعيه للمصارف لتمويل طلبات المساكن وأيضا ــــ ودائما ــــ مع عدم وجود خطة واضحة لذلك، وفي ظل وجود خلل سلوكي مترسخ في مفاهيم الحاجة والتكلفة والمنفعة في اختيار وبناء المسكن، تحولت جميع العوامل السابقة إلى خلل كبير في السوق، ظهر مع طلب غير مسبوق تصاحبها قدرة مالية ضخمة، يقابل ذلك ثبات في جانب العرض تحول إلى شح مع اتجاه إلى احتكار المشاريع، وكل ذلك أوجد تحولات ثقافية غير واضحة المعالم حول شكل المسكن وحجم العائلة السعودية. مصلحة الإحصاءات تقول، إن عدد المساكن المتاحة في تعداد عام 2010 بلغ 4600 ألف مسكن ما بين مستأجر ومملوك، بينما بلغ عدد الأفراد 26 مليون، موزعين على 4600 ألف أسرة، المساكن المملوكة بلغت 1800 ألف أي 39 في المائة من إجمالي المساكن يملكها 39 في المائة من الأسر. لكن مصلحة الإحصاءات لا تبين لنا على وجه الحقيقة ومن خلال التعداد كم من الأفراد أو المؤسسات التي تمتلك المساكن، بمعنى آخر إذا كان 61 في المائة من المساكن مستأجرة، فمن يمتلك المساكن المؤجرة؟ بالطبع هم من فئة المالكين، أي من ضمن 39 في المائة، ولأنه لا يتصور أن تكون المساكن المؤجرة موزعة بالتساوي بين المالكين لهذا فإن هناك تركيزا واضحا وكبيرا في جانب العرض قاد إلى الاحتكار. وإذا كانت الإحصاءات العامة تتوقع أن يصبح عدد الأفراد في المملكة 30 مليونا تقريبا في عام 2013، وهذا نسبة نمو تبلغ 15 في المائة منذ عام 2010، وهي نسبة ضخمة بلا شك وتوجد طلبا كبيرا على الإسكان، وأن السعوديين يتجهون إلى بناء أسر صغيرة والاستقلال بالسكن عن الأسر الكبيرة، فقد توقع بعضهم أن نواجه طلبا سيتزايد مع الزمن على المساكن.
كان هناك اعتقاد سائد بأن مشكلة السكن تكمن في ارتفاع سعره، في مقابل ضعف واضح في دخل الأفراد، وهذا الاعتقاد دفع الحكومة إلى زيادة مبلغ القروض وأيضا تشجيع مؤسسات الإقراض على المشاركة بقوة ومنح القروض لجميع فئات المجتمع، ولمدد طويلة وبمعدلات فائدة مناسبة. وقد نجحا هذا الاتجاه بقوة وعزز القدرة الشرائية للمواطن وخاصة فئة الشباب، حتى وصل حجم القروض العقارية إلى 84 مليار ريال منتصف 2014. وقد سجلت المؤشرات العقارية صفقات في عام 2013 بلغت أكثر من 35 ألف صفقة على العقارات السكنية بقيمة تجاوزت 51 مليار ريال بمتوسط 1.45 مليون ريال للصفقة الواحدة. وهذا التوجه الحكومي أوجد طلبا غير مسبوق على العقار، بينما بقي جانب العرض يعاني احتكارا واضحا، فارتفعت الأسعار بشكل كبير وزادت الاحتكار ولم تستطع السوق جذب استثمارات كبيرة لإيجاد التوازن بسبب قيود كثيرة، منها عدم توافر الأراضي الصالحة للاستثمار العقاري مع ادعاءات حول وجود أراضٍ بيضاء خام ترتفع أسعارها بلا إمكانية تطوير تساعد في تغطية فجوة العرض. لتصحيح هذا المسار قامت مؤسسة النقد أخيرا بتطبيق لوائح جديدة على الإقراض العقاري وذلك بإضافة شروط جديدة متعلقة بإلزام المقترض بدفع 30 في المائة، من قيمة العقار تلزم البنوك بتمويل 70 في المائة فقط من قيمة العقار، والتوقعات تشير إلى انخفاض طلبات التمويل العقاري في المصارف بنسبة تتجاوز الـ 60 في المائة.
وكقراءة لمستقبل السوق العقارية والطلب على المساكن في المستقبل القريب، فإنه من المتوقع أن تجد السوق توازنها قريبا إذا استطاعت وزارة الإسكان أن تلعب دور صانع السوق بكفاءة. فجانب الطلب سيتراجع نظرا لتفاعل عوامل عدة منها صعوبة الحصول على تمويل عقاري نظرا لشرط 30 في المائة. فمتوسط سعر المساكن بلغ 1.45 مليون ريال أي يدفع المستهلك 400 ألف ريال، وهذا صعب على كثير من المستهلكين وخاصة الشباب الذين يشكلون المحرك الأساسي للطلب. أضف إلى ذلك حالة الترقب لنتائج مشاريع وزارة الإسكان ومدى جديتها ومناسبتها لحاجة المجتمع، حيث تعهدت الوزارة ببناء 500 ألف وحدة سكنية وقد بدأت بالفعل في حصر المستفيدين، كما بدأت بتوزيع المساكن في بعض المناطق. العرض من جانبه سيتغير نوعا ما وذلك لعدة عوامل أيضا، حيث سيحجم المستثمرون عن ضخ سيولة جديدة للسوق نظرا لحالة الترقب هذه ونظرا لتراجع معدل العائد على الاستثمار الذي من المتوقع أن يتراجع إلى 4 في المائة، وهنا سترتفع تكلفة الفرصة البديلة في السوق العقارية ذلك أن معدل العائد على الودائع والسندات أفضل وأقل مخاطرة. لكن التراجع في العرض لن يوجد فجوة، إذا نجحت وزارة الإسكان في سرعة تغطية التراجع، ومرة أخرى إذا نجحت وزارة الإسكان كصانع للسوق، حيث ستتحول إلى مستودع رئيس للمساكن.
ليس من المتوقع أن يحدث تغير واسع في الإيجارات بالرغم من إحجام المستهلكين عن تملك العقار في المدى القصير. لكن هذا لن يبقى صحيحا على المستوى المتوسط إذا فشلت وزارة الإسكان في إمداد السوق بالمساكن، ذلك أن الطلب على المساكن المستأجرة سيرتفع بشكل مفاجئ مع زيادة اتجاه الأسرة السعودية وقبولها لتمدد العائلة، فالشاب الذي يسعى إلى تكوين أسرة جديدة سيضاعف الطلب على المساكن المستأجرة التي ستكون مشغولة تماما بمن ينتظر دوره في مشاريع الإسكان.
من التحليل السابق يتضح الدور المحوري لوزارة الإسكان في السنوات المقبلة، بل في اعتقادي أنها ستكون أهم وزارة على الإطلاق وستكون صانع سوق، بل أبعد من ذلك إلى صناع للاقتصاد السعودي ومنقذ من تراجع خطير في النمو الاقتصادي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي