انتهاء عهد التيسير الكمي في الولايات المتحدة
يعد الحفاظ على مستويات التوظف مرتفعة واستمرار استقرار المستوى العام للأسعار أهم أهداف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويفترض من الناحية النظرية أنه في سبيل تحقيق هذه الأهداف يعمد إلى خفض معدلات الفائدة إلى مستويات متدنية لتمكين النظام المصرفي والمالي من إقراض قطاع الأعمال الخاص والمستهلكين بمعدلات فائدة منخفضة، وقد لجأ الاحتياطي الفيدرالي بالفعل في بداية الأزمة الحالية إلى تخفيض معدلات الفائدة إلى الصفر تقريبا،ونتيجة لضعف استجابة الاقتصاد لهذه التخفيضات بدأ الاحتياطي الفيدرالي في التفكير في بدائل أخرى غير تقليدية لتعزيز الانتعاش الاقتصادي والخروج من الأزمة، وكان على رأسها التيسير الكميQuantitative Easing، أو ما يطلق عليه أحيانا ببرنامج شراء السندات.تجدر الإشارة إلى أن التيسير الكمي ليس فكرة جديدة، كما برامج التيسير الكمي لم يقتصر استخدامها على الولايات المتحدة، وإنما استخدمها البنك المركزي الأوروبي، والبنك المركزي البريطاني، والبنك المركزي الياباني في آن واحد، غير أنها لم تمارس على هذا النطاق في العالم كما هو الحال في الوقت الحالي.
في الرابع من سبتمبر 2008 بلغ إجمالي أصول النظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي906 مليارات دولار، منها نحو 700 مليار دولار أوراق مالية. في الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي بلغ إجمالي أصول الاحتياطي الفيدرالي نحو 4502 مليار دولار، منها 4243مليار دولار أوراق مالية، أي أنه خلال هذه الفترة تضاعفت أصول الاحتياطي الفيدرالي نحو خمسة أضعاف، حيث تسببت برامج التيسير الكمي في إضافة نحو 3.7 تريلون دولار من الأوراق المالية إلى ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما يعكس أكبر عملية توسع نقدي تمت في تاريخ الولايات المتحدة حتى الآن، والتي تمت في إطار ما يسمى بعمليات الشراء واسع النطاق للأصولLarge-Scale Asset Purchases.
أما عن آلية شراء هذه السندات فهي أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشرائها من سوق السندات وليس من الحكومة أو الجهة المصدرة، لأن الهدف الأساسي من عمليات الشراء هو التأثير على الأسعار السوقية هذه السندات، وعندما تتغير أسعار السندات تتغير معدلات العائد عليها في الاتجاه المعاكس، على سبيل المثال قد يستهدف الاحتياطي الفيدرالي رفع سعر السندات المغطاة بالرهونات العقاريةMBS، وهو ما يؤدي إلى خفض معدلات العائد عليها وبالتالي انخفاض معدلات الفائدة على الرهون العقارية فيزداد الطلب على القروض العقارية لشراء المساكن، وينشط بالتالي الطلب في هذا القطاع الحيوي، وهذا هو الهدف النهائي من عمليات الشراء.
يطلق على هذه القناة من قنوات التأثير النقدي “قناة توازن المحافظ المالية” التي تفترض أن الأصول التي تشكل المحافظ الاستثمارية المختلفة ليست بديلة لبعضها البعض بصورة كاملة. فعندما يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشراء السندات المغطاة بالرهونات العقارية فإن المستثمرين يقومون بإعادة التوازن في محافظهم من خلال شراء سندات أخرى بدلا من تلك التي باعوها للاحتياطي الفيدرالي، فترتفع أسعارها هي الأخرى وتنخفض العوائد عليها، وهو ما يحسن الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي.
بدأت السياسة النقدية التوسعية الأمريكية في كانون الأول (ديسمبر) 2008 لأغراض مالية، أي بهدف إنقاذ المؤسسات المالية من السقوط، بصفة خاصة الكبرى منها وقد أطلق على هذه الموجة التيسير الكمي1،وذلك عندما أعلن الاحتياطي الفيدرالي بعد انهيار ليمان برازرز عن بدء عمليات الشراء واسع النطاق للأصول بقيمة 600 مليار دولار من السندات المغطاة بالرهون العقارية، بهدف مساندة مؤسسات التمويل العقاري الرئيسة في الدولة؛ فاني ماي وفريدي ماك، وفي مارس 2009 أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن نيته شراء 1.25 تريليون دولار سندات طويلة الأجل، منها 200 مليار سندات مؤسسات عقارية، و300 مليار من سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل، استمرت هذه الدورة نحو 17 شهرا وبانتهائها تم شراء 1.75 تريليون دولار.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 أعلن الاحتياطي الفيدرالي بدء الموجة الثانية من التيسير الكمي لمدة سبعة أشهر لشراء 600 مليار دولار إضافية من سندات الخزانة الأمريكية تنتهي في أواسط 2011. وبنهاية الربع الثاني من 2011 تم استخدام عوائد الاستثمار على السندات القائمة لشراء سندات جديدة وهو ما أدى إلى زيادة المشتريات الفعلية إلى 800 مليار، وقد تم التركيز في هذه الدورة على السندات من خمس إلى عشر سنوات استحقاق.
وفي أيلول (سبتمبر) 2011 أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن موجة مختلفة من التيسير الكمي أطلق عليها برنامج مد آجال الاستحقاق الأصول Maturity extension program والتي استهدفت أساسا شراء سندات طويلة الأجل بقيمة 400 مليار دولار من خلال بيع سندات ذات آجال استحقاق أقصر بذات القيمة، وفي 2012 وفي ضوء استمرار ضغوط سوق العمل تم إدخال موجة التيسير الكمي 3 بالسماح للاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات بقيمة 85 مليار دولار شهريا، والتي اختلفت عن الموجات السابقة في أن البرنامج لم يكن محددا بحد أقصى لعمليات الشراء، وإنما كان الأمر مفتوحا أمام الاحتياطي الفيدرالي لتحديد المدى الذي ستستمر فيه عمليات الشراء.
في اجتماع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح بالاحتياطي الفيدرالي تم الإعلان عن وقف برنامج شراء السندات المعروف بالتيسير الكمي تمهيدا لعكس اتجاه السياسة النقدية التوسعية الأمريكية التي استندت إلى معدلات الفائدة الصفرية واستهداف معدلات محددة للعائد على السندات لتشجيع عمليات الإقراض لأغراض محددة، وقد استند قرار اللجنة بوقف عمليات الشراء إلى أن هناك تحسنا جوهريا في الأداء الاقتصادي الأمريكي، متمثلا في استمرار ارتفاع معدلات النمو وتراجع معدلات البطالة وتحسن أوضاع سوق العمل على نحو جوهري، على الرغم من استمرار معدلات التضخم عند مستوى أقل من المستويات المستهدفة بصورة واضحة. غير أن الإعلان عن وقف التيسير الكمي لم يصاحبه ارتفاع في معدلات الفائدة التي تصل إلى الصفر تقريبا في الوقت الحالي، بل على العكس لقد أكد الاحتياطي الفيدرالي على أن الفائدة الصفرية ستستمر في المستقبل القريب، وأن عمليات رفع معدلات الفائدة ستتم بحذر شديد حتى لا تؤثر في مسار التعافي للنشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة، خصوصا أن بيانات التضخم مازالت مقلقة وأقل من المستهدف بصورة واضحة، وأن هناك عوامل دولية ربما تمارس ضغوطا أكبر نحو تراجعها، بصفة خاصة التراجع الكبير في أسعار النفط. ولكن ما هو تأثير برامج التيسير الكمي الثلاثة؟ لقد حذر الكثير من المراقبين في البداية من الآثار السلبية للتيسير الكمي على التضخم مع إصدار كميات ضخمة من النقود شهريا، غير أنه بعد تطبيق تلك السياسات لم يحدث أن واجه الاقتصاد الأمريكي طوال السنوات الخمس السابقة التي طبق فيها هذه السياسة أية ضغوط تضخمية، بل على العكس اتسمت تلك الفترات بتراجع معدلات التضخم عند مستويات دنيا أقل من تلك المستهدفة وفي بعض الأحيان كان التضخم سالبا، وهو أحد المخاوف الأساسية التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي حاليا.
الدراسات التي تمت لتقييم برامج التيسير الكمي أشارت إلى أنه قد ترتب على تلك البرامج تراجع معدلات العائد على الأصول طويلة الأجل بصورة واضحة، كذلك انخفضت معدلات العائد على سندات الشركات، والسندات المغطاة بالرهون العقارية. الدراسات تشير أيضا إلى أن البرنامج أسهم في رفع معدلات النمو وإضافة المزيد من الوظائف في سوق العمل الأمريكي، ونتيجة لعمليات التيسير الكمي تزايدت عمليات الاقتراض سواء من جانب قطاع الأعمال لأغراض الاستثمار أم من جانب القطاع العائلي لأغراض الاستهلاك نتيجة لتراجع معدلات الفائدة. المتضرر الأكبر من العمليات بالطبع هم المدخرون والمودعون لأموالهم في النظام المصرفي والذين يحصلون على معدلات فائدة متدنية للغاية، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في جميع الدول التي تربط عملاتها بالدولار مثل دول الخليج، كما أن أبرز الخاسرين من وقف البرنامج هو بورصات الأوراق المالية، حيث ستنتهي حقبة الأموال السهلة أو الرخيصة، التي تعد المحرك الأساسي لسوق المال في الوقت الحالي، غير أنه ينبغي التأكيد على أن وقف البرنامج لا يعني انتهاء آثاره، حيث سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في الاحتفاظ بهذه السندات لفترة طويلة، ومن ثم ستستمر خلالها آثار البرنامج في العمل.