انخفاض سعر النفط .. الأسباب والنتائج
ليس ثمة شك في أن انخفاض سعر النفط على مدى الأسابيع القليلة الماضية قد أربك كثيرا من المتابعين للمتغيرات الاقتصادية في بلادنا، وليس ثمة شك في أن التراجع الحاد في سوق الأسهم قد فاقم هذا الإرباك وطرح أسئلة عديدة عن الأسباب والنتائج لذلك الانخفاض، ولعل السرعة التي هوت بها تلك الأسعار قد أوجدت إحساسا لدى الكثير أن الأسعار لم تكن مبنية على أسس راسخة متينة، أما السؤال الآخر الذي تم طرحه فهو عن الأسباب التي دعت “أوبك” إلى أبقاء سقف الإنتاج كما هو دون تخفيض مع أنه كان من اليسير علي “أوبك” أن تخفض الإنتاج وتعيد السعر إلى سابق عهده، أما السؤال الأخير فكان يتعلق بمستقبل الاقتصاد واتجاهاته والأثر الذي يمكن أن يتركه انخفاض سعر النفط في سوقنا المالي . ولا شك أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة المهمة والجوهرية قد تمت مناقشتها من قبل أقلام رصينة غطت كثيرا من الجوانب إلا أنني ما زلت أرى أن في اليم متسعاً لدلو جديد يُلقى مع الدلاء واجتهاد آخر يضاف إلى ما سبقه من اجتهادات ولا سيما أن الآراء طالما تشعبت عند تحليل الظواهر الاقتصادية ونتائجها.
ولعلي أبدأ الإجابة عن السؤال الأول عن أسباب انخفاض أسعار النفط بالإقرار أولا أن هذا الانخفاض أمر طبيعي يتسق مع طبيعة السوق التي منذ عرفها الإنسان لا تستقر على حال فهي في صعود يعقبه نزول أو هبوط يتبعه ارتفاع ولا شك أن كل من درس الاقتصاد يعرف الدورات الاقتصادية ويعرف أنها خليط من قمم صاعدة وقيعان هابطة، وكل من تابع سوق النفط يذكر أن متوسط سعر النفط قد بلغ في عام 1980 نحو 37 دولارا - أو ما يعادل 100 دولار بأسعارنا اليوم إذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار –وكيف تراجع حتى بلغ متوسط سعر النفط 14 دولارا في عام 1986- وهو ما يعادل 30 دولارا بأسعار اليوم - ثم عاود الصعود ليصل ذروته في عام 1990 ثم تراجع ليصل القاع في عام 1998 ثم عاود الصعود في عام 2003 ليستمر في رحلة صعوده حتى عام 2014 وهو الآن يبدأ رحلة هبوط لا يعلم مداها إلا الله .
وبناء على ما تقدم يجدر بنا أن ندرك أن ما يحدث في سوق النفط ليس بدعا وليس ظاهرة جديدة بل ظاهرة تكررت وستظل تتكرر.أما أسباب انخفاض السعر في هذه الفترة فيعود إلى عاملين متداخلين، العامل الأول هو الزيادة في إنتاج النفط في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى تقليل كميات النفط المستورد والاعتماد على النفط المستخرج من أمريكا وهو ما يوضحه الجدول المرفق والمأخوذ عن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية –مع رجاء الملاحظة هنا أني غير مهتم لمصدر هذا النفط سواء كان صخريا أو رمليا أو من الحقول التقليدية طالما انه ينتج في أمريكا - أما العامل الثاني فهو ارتفاع سعر صرف الدولار.
أن هذين العاملين أديا إلى التراجع في أسعار النفط عالميا فكيف تم ذلك؟ في الواقع أن شراء الولايات المتحدة للنفط من السوق الأمريكي يعني أن كميات كبيرة من الدولار أو ما يسمي البترودولار أصبحت تنفق داخل الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما أدى إلى نقص المعروض من الدولار خارج أمريكا وبالتالي ارتفع سعر صرف الدولار أما الأمر الثاني فهو أن زيادة انتاج النفط في أمريكا ساهمت في دفع عجلة الاقتصاد الأمريكي وهذا ساهم بدوره في مزيد من دعم الدولار وارتفاع قيمته.
ولأن النفط في السوق العالمي يتم بيعه بالدولار فإن سعر صرف الدولار يعتبر عاملا مهما في تحديد الكمية المطلوبة بالنسبة للدول المستهلكة ولتوضيح هذه النقطة دعونا نفترض أنه في عام 2012 كان سعر برميل النفط هو 100 دولار وأن سعر صرف الدولار بالنسبة للين الياباني كان 90 ين للدولار في هذه الحالة إذا أراد المواطن الياباني شراء برميل من النفط فإنه سيدفع 9000 ين للبرميل والآن لنفترض أن سعر البرميل بقي ثابتا عند سعر 100 دولار حتى عام 2014 ولكن سعر صرف الدولار ارتفع إلى 120 ين كما هو الوضع حاليا هذا ببساطة يعني أن المواطن الياباني مضطر لأن يدفع 12000 ين للبرميل بدلا من 9000 علما بأن سعر البرميل بالدولار لم يتغير وما زال عند مستوى 100 دولار للبرميل. إن سعر النفط بالواقع ارتفع بالنسبة للمواطن الياباني وليس أمامه خيار إلا أن ينصاع لقوانين الاقتصاد ويقلل الكمية المطلوبة من النفط نتيجة لارتفاع السعر.
إن ما وضحناه سابقا بالنسبة للمواطن الياباني ينطبق أيضا عليى المواطن التركي والمصري والهندي والأوروبي ... إلخ على السواء وكل مواطنو هذه الدول مضطرون لتخفيض الكميات المطلوبة من النفط ليس بسبب ارتفاع سعر النفط ولكن بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار. ولا شك أن تراجع الكميات المطلوبة من الدول المختلفة يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي على النفط وهو ما يقود إلى زيادة المعروض ومن ثم يدفع أسعار النفط إلى الانخفاض وهو ما حدث فعلا وانخفض النفط من سعر 100 دولار للبرميل إلى 60 دولارا للبرميل. وإذا كانت النقطة السابقة قد أخذت حقها من الوضوح في ذهن القارئ فإني سأنتقل إلى السؤال الثاني.
والسؤال الثاني يقول لماذا علينا أن نبيع نفطنا رخيصا ولماذا لا نقلل من المعروض من خلال تخفيض الإنتاج ونبقي نفطنا في مكامنه حتى يعاود السعر ارتفاعه من جديد ثم نبيعه، وهنا أعود لأقول إن هذا الطرح منطقي ومشروع ولكن ما النتائج التي ستترتب عليه؟
إن تخفيض إنتاج الدول المنتجة سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع الأسعار من جديد بعد امتصاص الكميات المعروضة في السوق وسيعيد السعر بالضرورة إلى مستوى 100 دولار نتيجة لنقص المعروض ولكن الولايات المتحدة التي لا تعاني مشكلة سعر الصرف سوف تستمر في استيراد ما ينقصها من النفط بسعر 100 دولار وتغطي الباقي من سوقها المحلي الذي سيستمر في الإنتاج وسيستمر الاقتصاد الأمريكي في النمو وسيرتفع سعر الصرف من جديد وستكون الدول المستهلكة الأخرى بين حجري رحى حجر ارتفاع الأسعار وحجر ارتفاع سعر الصرف وستعاني الدول المستهلكة جحيما لا يطاق من ارتفاع سعر المنتجات وسيخرج كثير من الصناعات من السوق نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وسيقل الطلب على النفط من جديد وتنخفض أسعاره ونعاود نحن تخفيض الإنتاج في محاولة لرفع الأسعار من جديد وهكذا نستمر في الدوران في الحلقة المفرغة نفسها. أما البديل الآخر فيحتم علينا أن نترك السوق يحدد سعر التوازن الجديد من خلال انخفاض الأسعار بسبب دخول بعض المنتجين الجدد إلى الحد الذي سيضطر بعض أولئك المنتجين للخروج من السوق ويعاود السعر الارتفاع ثم الاستقرار من جديد عند مستوى توازن جديد فرضته التغيرات التي أحدثها دخول المنتجين الجدد ويكون هذا السعر لصالح المنتج والمستهلك وهو ما نعتقد أنه سيكون عند مستوى بين60 الى70 دولارا للبرميل الذي يمكن أن يكون سعر التوازن الجديد الذي سوف يستمر لفترة ليست بالقصيرة وهكذا نرى أن ترك الأسعار لعوامل العرض والطلب هو البديل المنطقي وليس التدخل لتصحيح مسار السوق.
وعند هذا الحد يمكن الانتقال إلى إجابة السؤال الثالث حول الآثار التي تترتب على اقتصادنا وسوقنا المالي من جراء انخفاض سعر النفط وهنا لا بد أن نتذكر أن سعر صرف الدولار بالنسبة للريال ثابت وأن أي ارتفاع في سعر الدولار سينعكس على الريال ويرفع من قوته الشرائية وهكذا نرى أن انخفاض سعر النفط سيعوضه ارتفاع سعر صرف الريال المثبت بالنسبة للدولار.
ولتوضيح النقطة السابقة دعنا نفترض أننا ندفع شهريا للشركة التي تبني قطار الرياض 100 مليون يورو وهذا المبلغ كان يساوي عند مستوى 100 دولار لسعر البرميل 550 مليون ريال فإن المبلغ نفسه عند مستوى سعر 70 دولارا للبرميل قد يصبح 450 مليون ريال نتيجة لارتفاع قيمة الريال، وهكذا نجد أن ارتفاع سعر صرف الدولار قد خفف من وطأة انخفاض سعر النفط. ولا شك أن أحدا سيقول إن ذلك التعويض ليس كافيا ونقول له هنا إنه لا بد من إدراك مسألتين أن هذا التعويض قد يزيد على المدى الطويل وأنه لا بد أن يتأقلم مع الحقائق الجديدة التي أوجدها المنتجون الجدد في سوق النفط..
وفي الختام يمكن أن نلقي نظرة خاطفة على أثر ذلك كله في سوقنا المالي ونقول باختصار إن الأثر سوف يختلف من قطاع إلى آخر فالقطاعات التي تعتمد على الاستيراد مثل قطاع التجزئة سوف يتحسن أداؤها نتيجة لارتفاع قيمة الريال وانخفاض تكاليف الإنتاج، وسيحدث العكس بالنسبة للشركات التي تعتمد على التصدير في حين تبقى الشركات التي تعتمد على السوق المحلي مستقرة إلى حد كبير، أما فيما يتعلق بقطاع المصارف فسيعتمد أداؤه على توجهات سعر الفائدة ومدي براعة المصارف في الاستثمار في السوق الأمريكية الواعدة.