أنت تعرف الطريق.. ولكن هو.. إلى أين؟
إن القوة التي شكلتني في كل مرحلة من حياتي، وأقصد المراحل الأولية، هي القوة العظمى التي منحني إياها والدي.
وأحمد الله أن منحني أبا عظيما، صقل كل ما لدي من بداية سنواتي الأولى وحتى هذه اللحظة.
فلن أنسى كم مرة قال لي حين كنت أستشيره في قرارات مصيرية كيف كان يقول لي ببساطة: "لن أمنعكِ أن تكوني أنتِ.
لن أشكلكِ، إنما أريد أن يكون لكِ الرؤية الخاصة التي تريكِ من الآن أي الطرق ستسلكين.
وأنا سأنير لكِ الطريق في كل الأحوال ولكني لن أختاره".
هذه الثقة منحتني القوة في أن أختار القرار الصائب، لأني حتى وإن تخبطت فلن أرجع إلى أبي كي ألومه بسبب قرار كان يلزمني أن أختاره بنفسي منذ البداية.
وأصعب مرحلة في حياة كل مرء هي المراهقة، أيام التخبط وتعدد الخيارات والرغبات والخطط والتناقضات الشديدة والإلحاح الذي يلتفُ الانسان من كل الجوانب والجهات.
تلك المرحلة الحرجة، والتي يلزمنا الوعي بأهمية استيعابها وتفهمها والاهتمام الصادق بكل جانب من جوانبها وبكل ما يساعد على تجاوزها بسلام وسواء نفسي واتزان.
منذ مدة ليست بالبعيدة
قرأت مقالة هي من أثارت كلّ ذلك في داخلي، وأبكتني حقيقة لأني وقفت حائرة بصدق.
فنحن نهتم للطفل، للشاب وللراشد ونتجاوز حقيقة ما بينهما، تلك المرحلة التي تحدد في كل الأحوال أي الطرق سيسلك هذا المراهق في مرحلة شبابه، فأنت تعرف طريقك، ولكن هو إلى أين؟
مقالة "أشباحٌ بيننا" للدكتور نجيب بن عبدالرحمن الزامل.
هي من وضعت الملح على الجرح، وجعلت من روحي تتسآل.. أين نحن منهم؟
منسيون وأشباح بيننا يعيشون صراعاتٍ ثقافية وفكرية ونفسية واجتماعية وتقنية ويعانون العذاب والويلات، ولكن كلُّ منشغل في نفسه وحياته متناسيا المراهق الذي لا يمكنك أن تصنفه لا بالطفلِ ولا بالراشد.
إن الطريقة المثلى والمجدية لكل مراهق هي
أن تمد له كف الحب أولاً، وأن تصادقه، وأن تثق به، وأن تؤمن بما لديه، وأن تستمع منه دون نصح ولوم وتأنيب، وترشده للصواب بطرق لطيفة وغير مباشرة، وأن تساعده على أن يكون هو كما يحب دون أن تشكّله أو تبرمجه على طريقة قد لا تتناسب معه.
وأن تراعي تناقضه وتخبطه وعناده.
وأن لا تقارنه ببقية أقرانه، وأن تراعي دائما الفروق الفردية في كل هذا.
وأن تحتوي غضبه وتمرده وعصيانه، وأن تحاول أن تساعده على تجاوز كل ذلك بثبات، لا أن تقابل العنف بالعنف لتتسع الدائرة التي لن تغلق بسهولة.
إن الصداقة هي الوثاق الذي سيضمن لك مراهقا ممتلئ الروح، واثقا بما عنده، ومرتاحا من الداخل والخارج.
ولا يمكنني أن أنسى صداقة أبي لي في تلك المرحلة، لقد كان يخاطبني كما يخاطب الكبار تماما، كان يستمع لي دون أن يقاطع أو أن يتذمر.
يستمع بحب صادق وثقة تنبعُ من عينيه، حتى وإن قلتُ شيئا مُخجلاً لم يكن ينفعل بطريقة تجعلني أهرب دون العودة للحديث بكل هذه الأريحية التي ما كانت لتكون بهذا الشكل لولا أنه كان يمنحني إياها لأنه يدرك أهميتها.
لقد كان يحثني على أن أقول كل خططي وما يدور في رأسي، وكنت أثرثر على رأسه طويلا، وكان يحتوي كل ثرثرتي بأن يمنحني الأمان لأتحدث أكثر ولأن أكشف عن كل ما أخشاه
لكي يصنع سفينةً تأخذني إلى ميناء السلام النفسي والاتزان الحقيقي.
وبالفعل، صداقته تلك آتت ثمارها، وأنا هنا بين يديه أقف لأقول: أنت الصديق الذي صنع قوتي يا أبي.
وساعدني على أن أتجاوز تلك المرحلة دون أن أشعر بالسوء، حبك وثقتك وصداقتك هي الرباط الذي جعل مني واعية، ومدركة بأنها مرحلة ينبغي عبورها بتصالح تام.
رسالتي العميقة لكل مسؤول لديه مراهق:
امنحه الثقة والحب أولا، وصادقه مع هذا الحب..
وانتظر لتثمر تلك الصداقة شخصا عظيما ورائعا أنت من ساعده على أن يكون كذلك.
وتذكّر أنك تعرف طريقك، فلا تحرم المراهق من أن يعرف طريقه إلى أين..