توطين الإنفاق الحكومي في المناطق والمحافظات

لا شك أن هناك إنفاقا سخيا تبذله الدولة حرصاً على تحقيق الرفاهية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. وأكبر دليل على ذلك أرقام الميزانيات الضخمة والطفرات الاقتصادية والمشاريع العملاقة والخدمات العامة في جميع المناطق. ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن التنمية لا يمكن اختزالها في حجم الإنفاق، وإنما أيضا في كفاءة إعادة توزيع الدخل ودرجة الاستجابة إلى المستجدات واستدامتها. فلم يعد المهم فقط تقديم الخدمات العامة، ولكن الأهم أن يحمل الإنفاق الحكومي معه سلة من الأهداف التنموية المنشودة، أهمها توليد الوظائف وزيادة الإنتاج المحلي الذي هو جوهر النشاط التنموي. فالتنمية تعني استكشاف الإمكانات وتوظيفها وتمكين القدرات المحلية وتطويرها لبناء قاعدة اقتصادية وصناعية تضع الاقتصاد المحلي على درجة أعلى في سلم التنافسية. إلا أن تحليل الوضع الراهن للإنفاق الحكومي يكشف أن الإجراءات المالية تعجز عن تحقيق ذلك بسبب المركزية الشديدة والصرامة في العمل، في إطار ضيق لا يتيح لصاحب القرار مجالا للإبداع والتفكير في خيارات ترفع من مستوى المنافع المتحققة من الإنفاق. بطبيعة الحال هذا التشدد مبعثه الحفاظ على المال العام ولكن يجب ألا يكون معيار الحرص على المال العام في إنفاقه بطريقة بيروقراطية صرفة تفوت ما هو أكثر وأكبر منفعة، ولا تسهم في تحقيق المصلحة العامة بمفهومها الأعمق والأشمل. وعندما تكون الإجراءات أهم من الأهداف فإن ذلك مؤشر خطير يصيب التنمية في مقتل. لقد حان الوقت لأن يكون هناك ربط بين المخصصات المالية وأداء الأجهزة الحكومية وبما يؤدي إلى تحقيق مستوى معيشي أعلى للمواطن ليس فقط بتقديم خدمات ومشاريع كما ونوعا وجودة فحسب، ولكن ربط قرارات تقديمها بما يحقق تنمية صناعية مستدامة وخلق فرص وظيفية وتوسيع دائرة الإنتاج المحلي.
الفكرة هنا هي توظيف الريال من الإنفاق الحكومي بطريقة تضاعف من المنافع الاقتصادية وتعالج كثيرا من المشكلات الاجتماعية، وتجعلنا أكثر قدرة على مواجهة التحديات المستقبلية. هناك حاجة ماسة إلى التفكير خارج الصندوق ومناقشة الأداء الحكومي بأفق أوسع يتعدى التفكير البيروقراطي الضيق، الذي يدفع الموظف العام نحو حماية نفسه، ولو تعطلت المصلحة العامة. ومع هذا الإمساك المالي الشديد إلا أنه يعجز عن وقف النزيف المالي والإنفاق في غير محله والتحول نحو الاستثمار الصناعي بالتركيز على الصناعات التحويلية ورفع مستوى قطاع التصدير، حيث يجلب كل ريال ينفق ريالات أكثر من خارج الاقتصاد الوطني. ما يحدث الآن هو تسرب كثير من الأموال خارج الاقتصاد الوطني دون أن تكون هناك قيمة اقتصادية مضافة. وهذا يفسر أن حجم الاقتصاد الوطني يعاني انتفاخا وهميا ولا يعكس حجمه الحقيقي. والدليل على ذلك معدل البطالة ونسبة الفقر وتفشي ظاهرة العنوسة المتصاعدة، على الرغم من الإنفاق السخي للدولة. إذاً السؤال: ماذا علينا فعله في الوقت الراهن لتدارك هذا الوضع الحرج الذي يزداد صعوبة مع مرور الوقت؟ الحل الأمثل هو في توطين الإنفاق الحكومي في المناطق والمحافظات، لأن ذلك أفضل وسيلة للربط بين الإنفاق الحكومي واحتياجات المواطن. وإذا كان الاقتراب من المواطن وتلمس احتياجاته المعيار الأساس لكفاءة الإنفاق الحكومي، فإنه يمكن القول إن الإدارة المحلية هي الوسيلة الفعالة لتحقيق ذلك. فالمدن والمحافظات والمناطق هي مكان الفعل والنشاط الاجتماعي والاقتصادي. ولذا كان لا بد من التوجه نحو التخفيف من المركزية وصولا إلى اللامركزية. وهذا يعني أن يكون لمجالس المناطق والمحافظات والبلديات نصيب في عملية صنع القرارات المالية من حيث وضع ميزانياتها حسب الأولويات المحلية وحرية التصرف في توزيع المخصصات المالية بما يكفل تنمية محلية مستدامة.
وإذا كان يتعذر في الوقت الراهن منح الاستقلال الإداري والمالي للإدارة المحلية بجميع مستوياتها، فإنه بالإمكان تطبيق اللامركزية الاقتصادية والمالية وذلك بإنشاء شركات حكومية مساهمة في كل منطقة تقوم بالأعمال المدنية. هذه الشركات التنموية تقوم بطرح جزء من أسهمها للاكتتاب العام المحلي لتحقيق أكثر من هدف، منها فتح المجال للمواطنين للمشاركة في عملية صنع القرار الاقتصادي عبر الجمعية العمومية للشركة، والإسهام في تحسين مستوى معيشة المواطن من خلال جني الأرباح، وتوفير وظائف ذات دخل مناسب للمواطنين. هكذا يصل الريال من الإنفاق الحكومي لأكبر عدد من المواطنين وفي الوقت ذاته تتحقق تنمية محلية تكون فيها المناطق النائية والمدن المتوسطة بيئة جاذبة تحد من الهجرة إلى المناطق والمدن الأكثر تنمية. والناظر المتفحص للإنفاق الحكومي يجد أن الاقتصاد الوطني يعتمد بشكل رئيس على المشاريع والخدمات العامة، ولذا فالحكومة هي الموظف للجميع سواء بطريقة مباشرة للأفراد أو بطريقة غير مباشر باعتماد منشآت القطاع الخاص على الإنفاق الحكومي. ومن يتحدث عن القطاع الخاص في أنه يلعب دورا كبيرا في التنمية الوطنية فهو يجافي الحقيقة، بدليل إذا شح الإنفاق الحكومي تلاشى القطاع الخاص، مع أنه في دول أخرى يعتبر المنتج الرئيس، ويقتصر دور الحكومة على التوجيه والتهيئة بالدعم التشريعي وإدارة الاقتصاد عبر السياسات المالية والنقدية.
المشكل أن هناك استراتيجيات وطنية صدرت قبل عقود ولم تنفذ بسبب رعونة الإجراءات المالية. من بين تلك الاستراتيجيات الوطنية الاستراتيجية العمرانية التي كانت رؤيتها هي تطوير المدن المتوسطة من خلال إنشاء مشاريع حكومية تكون نواة للتنمية المحلية. ولكن لا يكفي أن تقام المشاريع التنموية والخدمية لتزدهر وتتوسع المدن المتوسطة، فلا بد من توطين الإنفاق وهذا لا يتأتى إلا من خلال إنشاء شركات حكومية مساهمة تقوم بتقديم الخدمات المدنية المطلوبة. على سبيل المثال الجامعات الناشئة في المحافظات لديها ميزانيات ضخمة، ولكن لا يستفيد السكان المحليون منها إلا بجزء يسير، وجله يذهب خارج الاقتصاد المحلي للمحافظة. وهذا يؤدي إلى تنمية عرجاء، إذ كيف يصح أن نبذل الكثير من أجل تعليم أبناء المنطقة ومن ثم بعد التخرج نعجز عن توظيفهم على الرغم من الميزانيات الضخمة للجامعة التي تقع في منطقتهم. أتمنى على مجلس التنمية والشؤون الاقتصادية دراسة المقترح والخروج بقرارات جريئة وحازمة وحاسمة كما تعودنا، لنجعل الريال من الإنفاق الحكومي يوظف تنموياً ويبقى ويترعرع في مكانه الصحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي