الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. «سيلفي» المجتمع

هناك مفهوم قاصر لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اختزل في جزئية العبادات ولم يشمل المعاملات الاقتصادية والإدارية والسياسية والاجتماعية بالاهتمام ذاته والتطبيق. وظل معظم الناس بمن فيهم بعض القائمين على جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكرّسون هذا المفهوم الضيق حتى تولدت فجوة بين حقيقته الشمولية ومقاصده العالية الذي جاءت به الشريعة، وتطبيقه المختزل والممارسة الهشة له، وهو ما أفقد هذه الشعيرة أهميتها كآلية تحقق خيرية الأمة وريادتها، ولأنها ركيزة أساسية في استدامة وقوة النظام الإسلامي فقد استهدفت من قبل الجهال والأعداء، ووجدوا في ضعف ممارستها بشمولية وتركيزها في الغالب على الجوانب التعبدية الفردية دون الخوض في الشؤون العامة، مدخلا لانتقادها والتقليل من شأنها، بل الأدهى والأمر اتهام النظام الإسلامي في أنه منهج يقتصر فقط على العبادات ولا يشمل جميع مناحي الحياة. وهؤلاء الذين يجهلون حقيقة الإسلام الشمولية يضيقون ذرعا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حيزها الضيق. فباسم الحرية الشخصية يريدونها انفلاتا أخلاقيا تشبها بمجتمعات أخرى. وفات عليهم أن تلك المجتمعات لديها قوانين صارمة تقنن العلاقات في المجتمع وتردع الأفراد من التعدي على حريات وحقوق الآخرين وتحقق المصلحة العامة. ولذا فإن الاختلاف بين المجتمعات لا يقع في الحفاظ على الحقوق والمصلحة العامة وتطبيق النظام من عدمه، وإنما في تفسير مفهومي الحرية الفردية والمصلحة العامة، حيث إنها مسألة نسبية تخضع للقيم المجتمعية التي تحدد ما يصح وما لا يصح وتبين الحقوق والواجبات. وهكذا نجد أن القوانين في كل المجتمعات تجرم السلوكيات السيئة حسبما يتفق مع منظومتها القيمية. وعلى سبيل المثال يبيح كثير من المجتمعات شرب الخمر والعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، بل أجازت زواج المثليين وتعاطي المخدرات مثل الماريجوانا وغيرها. ولذا فما يعتبر قبيحا عند مجتمع قد يكون حسنا في مجتمع آخر والعكس صحيح، وعليه لا يمكن بأي حال من الأحوال استيراد نظام سياسي واقتصادي دون منظومة قيمه المجتمعية. وهذا يعني أن على البلدان التي ترغب في تطبيق أنظمة من مجتمعات أخرى لابد من أن تخضع المستورد للتمحيص واختيار ما يناسبها أو التخلي عن منظومتها القيمية. والمراد من هذا الحديث أنه من الصعب والخطأ تقييم نظام مجتمع ما على أساس قيم ومعايير مرجعية لنظام آخر. هذا لا يعني عدم المقارنة بين إجراءات صنع القرار العام والأداء وما تحقق من نتائج في النظم المختلفة، فالأفكار شيء وكيفية تطبيقها شيء آخر. وهذا ما نلحظه من تفاوت في النظم السياسية الديمقراطية حتى وإن كانت جميعها تعمل في إطار منظومة قيم متشابهة. ولذا يمكن القول إن جميع النظم المتحضرة بل إن مرتكز أي حضارة يعتمد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كآلية تصحيح، وإنما الاختلاف هو في تعريف المعروف والمنكر. فالأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كإجراء أنه تغذية عكسية تسهم في إدارة المجتمع وضمان اتجاهه في المسار الصحيح سواء بفرعه الجزئي على المستوى الفردي أو بمفهومه الكلي المؤسساتي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يأخذ مسميات متعددة في المجتمعات الأخرى مثل المحاسبة والمراقبة والفصل بين السلطات وتطبيق الجودة وأخلاقيات الوظيفة العامة والسلم الاجتماعي والعمل التطوعي وغيرها مما يمثل آلية للتغذية الراجعة. ولذا بتطبيق شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكلها الشمولي تتكون صورة واضحة عن حال المجتمع ويتم من خلالها الضبط الاجتماعي. إنه يلتقط صورة ثابتة لحال المجتمع يشاهدها الجميع ليرتقي الوعي الجمعي، وهذا أعلى درجات التحضر. فهذه الصورة تكون محل التفكر والتحليل والتقييم يتعرف من خلالها على مواطن القوة والضعف ليتم بعدها البحث عن الإمكانات والفرص وحلول للتحول بالمجتمع للأفضل. ربما اقترح البعض الفن كآلية ضمن آليات التغذية الراجعة، ولكن الفن كالمرآة قد تكون مستوية ومصقولة تعكس الحقيقة بوضوح دون خدش أو تضليل، أو تكون غير مستوية وباهتة فتكون مضللة وخادعة. فجودة الفن مرهونة بالتزامه بقيم المجتمع، فهي المسطرة التي نقيس بها أداءه في السياسة والاقتصاد والفن وجميع مناحي الحياة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي