هيئة الأوقاف .. والتحول الاقتصادي

للمرة الثانية يصدر مجلس الوزراء قراره بإنشاء الهيئة العليا للأوقاف لتنظيم قطاع الأوقاف وإنقاذه من الفوضى والعمل العشوائي، ليكون قطاعا فعالا في المنظومة التنموية، ولا أعرف الأسباب التي عرقلت انطلاق عمل الهيئة في السنوات السابقة، رغم تأكيد وزير الشؤون الإسلامية في أكثر من تصريح منشور في عام 2012 بقرب الانتهاء من تأسيس الهيئة وتنظيمها لتعمل برؤية اقتصادية مختلفة.
وأرى أن إعلان الدولة تأسيس الهيئة الجديدة بهيكلها المقترح وتنظيمها المؤسسي، الذي يفترض فيه توافر الكفاءات الاقتصادية بالتزامن مع "برنامج التحول الوطني" فرصة ثمينة لهيكلة قطاع الأوقاف، وتمكينه من تأدية دوره الاقتصادي والاجتماعي وتجاوز العقبات التي حالت دون نمو الأوقاف في السابق، لأسباب تشريعية وإدارية.
والإحصاءات التقريبية حول حجم قطاع الأوقاف في المملكة ومعدلات عوائدها، تذكر أنها تجاوزت 500 مليار ريال ومعدل عوائدها 5 في المائة، ولو تمكنت الهيئة الجديدة من حصر المؤسسات الوقفية من عقارات ومزارع وأراض وغيرها وتنميتها بالشكل المتعارف عليه لأصبح لدينا مؤسسة اقتصادية عملاقة لا يستهان بها في تنمية الدخل الوطني، فضلا عن الآثار غير المباشرة في تنمية فرص العمل وخفض نسب البطالة وتنمية الطلب على السلع والخدمات، وتنشيط الحركة الاستثمارية، وتعزيز جانب المسؤولية الاجتماعية التي يروج لها الآن بقوة.
ومن أفضل الأطروحات التي اطلعت عليها أخيرا بعد إعلان تأسيس الأوقاف، ما ذكره عبد الله النمري، الخبير المصرفي وأحد المتخصصين الذين عملوا في مجال تمويل الأوقاف وتنميتها لفترة زادت على عشر سنوات، ولخص تجربته في ورقة علمية قال فيها، إن أبرز تحد واجه الأوقاف وعطل تنميتها، هو "التمويل"، حيث أحجمت المؤسسات المالية عن تمويل المشاريع الوقفية وتطويرها بسبب القيود على رهنها أو إفراغها ضمانا للتمويل، باعتبار أن رهن أو إفراغ الوقف لا يجوز شرعا. فانصرفت المؤسسات المالية لتمويل قطاعات استثمارية أخرى أخف قيودا من الأوقاف، وإن كانت - في مجملها - لا تختلف في طبيعة نشاطها وإدارتها وربحيتها عن الاستثمارات الوقفية المشابهة لها، كما ذكر النمري في دراسته حول التحديات التي تواجه قطاع الأوقاف كذلك توافر الكفاءات القادرة على النهوض بالأوقاف وتنميتها، وعدم تفرغ "الناظر" لتطوير الوقف وانشغاله بأموره الخاصة. واختيار "الناظر" بناء على صلة القرابة أو السن أو المكانة الاجتماعية أو الأسرية، ما يكون مانعا رئيسا لتطوير الوقف أو استدامته. فالناظر هو "مدير الأصول" الذي يجب أن يتحلى بالمهارة والكفاءة المطلوبة التي يضمن بها أن يستمر الوقف وينمو. وهو ما يؤكد الحاجة إلى دراسة آليات وطرق تطوير النظارة وتدريب النظار، ويرى النمري أن هناك جملة من الحلول لتحقيق تنمية وقفية مستدامة، منها تأسيس مصرف للأوقاف أو شركة مالية تطرح للاكتتاب العام، وتساهم فيها صناديق الدولة الاستثمارية، تهدف فقط إلى تمويل الأوقاف وتطويرها، وتعبئة الموارد المالية لذلك، إما بتمويل مباشر للمشاريع الوقفية، أو عن طريق طرح صناديق استثمارية لمشاريع وقفية محددة. وتساهم إدارة تطوير المنتجات في هذه الشركة المالية في تطوير منتجات مالية إسلامية مبتكرة، تلبي حاجة قطاع الأوقاف، وتكون بوابة للولوج لأسواق رأس المال المحلية والإقليمية والدولية. وأيضا تأسيس شركة مساهمة عامة لتطوير الأوقاف، هدفها استثمار الأوقاف وتشغيلها بعقود طويلة الأجل، وتنفتح هذه الشركة على المؤسسات المالية الاستثمارية المرخصة من هيئة السوق المالية السعودية التي تؤسس صناديق وقفية تعبئ الموارد المالية لاستثمار وتطوير الأوقاف العقارية والزراعية والنقدية، بحسب نظام هيئة السوق المالية. أو أن تقوم المصارف التجارية بتمويل جزء من نشاط شركة تطوير الأوقاف، وتضمنها لدى المصارف صناديق الدولة الاستثمارية التي يؤمل منها المساهمة في تأسيس الشركة. وبالتوازي مع ذلك تعمل شركة تطوير الأوقاف استراتيجيا على تشكيل تحالفات مع مستشارين محليين وعالميين لتطوير أدائها ومخرجاتها وإعداد الكفاءات التي تخدم القطاع.
كما طرح النمري فكرة الترخيص لشركات تقدم خدمات النظارة الاستشارية والميدانية تخضع لتصنيف وإشراف من هيئات حكومية متخصصة، تشرف عليها وتراقب عملها ونتائج إدارتها وتشغيلها للأوقاف. وتفعيل استخدام التقنية في خدمات إدارة الأصول الوقفية لتحقيق فعالية أكبر ورقابة أشمل، يضمن بها مستوى أعلى من الشفافية. خاصة أن طبيعة الأوقاف الاستثمارية والعقارية تمكن من مقارنة أداء النظار بنظرائهم في القطاعات المختلفة.
والحقيقة أن أطروحات النمري وغيره من المختصين التي اطلعت عليها تؤكد أننا أمام ثروة وطنية عظيمة من الأوقاف المعطلة، بسبب ضعف الإدارة وغياب الرؤية وندرة المتخصصين، ولا يمكن لهذا الوضع أن يستمر في ظل توجهات الدولة الحديثة وحاجتنا إلى تعزيز التنمية الشاملة وتنمية الإيرادات غير النفطية، ولا بد من الإسراع في إطلاق هيئة الأوقاف وربطها بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ضمن المؤسسات التي تخضع للتقييم في برنامج التحول الاقتصادي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي