التعليم .. والطريق إلى المستحيل

هناك من ينتظر من وزير التعليم عملا خارقا.. يحدث تحولا جذريا في سياسة التعليم.. وهناك من ينتظر منه أن يجعل من الوزارة وإدارات التعليم والإدارات المدرسية منظومة تديرها الكفاءة!
لكن ذلك لا يعني حتما المستحيل.. بل إن المستحيل نفسه هو ما لم يتحقق بعد. فما هذا الذي لم يتحقق في التعليم أو منه.. وظل يدير الرؤوس ويحرك الأقلام.. في كل مرة يأتي له وزير جديد؟!
قيل الكثير عن المناهج وعن العملية التعليمية وعن بيئة التعليم وإعداد المعلم ودور التعليم تربويا واجتماعيا وأسريا واقتصاديا وثقافيا. كما عالجناه بالمسكنات والمنشطات وجربنا فيه أنواع العقاقير والأمصال واللقاحات.. وبدا وكأن العرض فيه النبش بالمرض وتشويش طريق الوصول إلى ما يفك عنه طوق اللوم والملامة.
لقد نهضت دول مثل كوريا وماليزيا وسنغافورة والهند وغيرها ما أصبحت تعرف بدول الاقتصادات الناشئة وكان لكل واحدة منها رؤية تنموية عملاقة رأت كل دولة نفسها فيها ورسمت على أساسها صورة ناصعة واضحة عن مستقبل تريده وتم تحديد الصورة شكلا وزمنا بصرامة، ثم أقامت وفقا لهذه الصورة بناء معراج التعليم من رياض الأطفال إلى الطوابق العليا في الجامعات والمعاهد وربطها بحواضن التقنية والمصانع والمعامل والمختبرات وورش العمل ومراكز البحث العلمي.
كانت الصورة التي رسمتها كل دولة بمثابة قوة الجاذبية لنوع المعارف والمهارات المطلوبة، فأخضعت العلوم الإنسانية النظرية لتكون منضبطة بالعقل والمنهج العلمي بعيدا عن هيمنة السائد والمألوف من معارفها واجترار الحنين إليها وقد قطع معها الزمن منذ قرون، أما العلوم التطبيقية والبحثية فكرست لها جل اهتمامها لكيلا تتحول وظائف مكتبية بل أن تترجم من علم إلى إنتاج صناعي وتقني.
لقد فعلت تلك الدول هذا دون الخشية والخوف على الهوية الوطنية من التغريب أو الانسلاخ من القيم و"العادات والتقاليد الأصيلة"! فقد كانت الإرادة مشحونة بصورة رؤيتها ومندمجة معها. أي أن إرادتها هي صنو صورتها وجوهر التصميم على اقتحام التاريخ بأقصى طاقة ممكنة.. أو أقل.. لا مكان لهذه.. "الممكنة" غير أن تكون!
نحن حققنا منجزات تنموية مشهودة لكن تحدينا اليوم هو في تصعيد الوزن النوعي للتنمية إلى الصورة الشاهقة التي نريد أن نرى بلادنا فيها.. وهذا التصعيد هو ما يستدرج بالضرورة تصعيدا إجرائيا للتعليم، حيث تكون السياسات الديناميكية للرؤية التنموية قوة دفع لسياسة التعليم يجعلها تتجاوز الاستجابة لشكل التنمية إلى استشراف آماد أبعد لها!
لقد تبنت تلك الدول في نماذجها، دون تردد، نموذج الحداثة الذي تفجر عنه التقدم المذهل في الغرب، فيما لا يزال الاجتهاد يثابر على التوفيق بين نموذج شعشع تفوقه منذ 400 عام، وبين ثقافتنا وأعرافنا وتقاليدنا من باب الخشية والاحتراس على الهوية الوطنية لغيرة أو لسوء فهم.. مع أن الحقيقة التاريخية تقول: إن العجلة لا يعاد اختراعها وبالمثل فالحداثة نموذج لا مجال للمضاربة عليه بالترقيع.
إن الطريق إلى ما نريده من تنمية نوعية مستدامة هو الطريق ذاته الذي سلكته تلك الدول.. فهي لم تستولد الحداثة من موروثها وأعرافها وإنما بالإصرار على الانخراط في قلب الحداثة واستثمار الأدوات والمعارف التي صعدت بالغرب من ظلام العصور الوسطى.. لذلك تمكنت تلك الدول من أن تصعد مثله ولم تذب أعرافها وتقاليدها وثقافتها.. ولم تنسلخ عن ذاتها رغم هياج محيط العولمة، وإنما أنتجت حداثتها هويتها الوطنية على نحو يليق بوجودها بل أغرت العالم بالاستمتاع بنكهة تراثها وتقاليدها وهي شامخة في مكانتها.. يقول محمود درويش:
"لن يصب النيل في الفولجا
ولا الكونغو.. والأردن.. في نهر الفرات
كل نهر.. وله نبع.. ومجرى.. وحياة"!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي