تغريدة «خالد الوابل ــ عبدالسلام الوايل» .. وثقب الإبرة
في تغريدة للأستاذ خالد الوابل (15/2/2016) عن دخول إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل السابق السجن وقبله الرئيس الأسبق موشيه كاتساف بسبب الفساد.. قال: (مع الأسف.. بهذا السلاح هزمونا وليس بقوتهم العسكرية) وقام الدكتور عبد السلام الوايل بإعادة التغريدة ما يعني المصادقة على أن ما قاله خالد تعليل صحيح قاطع حاسم بأن الفساد (فقط) سبب للهزيمة ومكافحته سبب النصر بدليل أن التغريدة قاطعة في نفيها" "وليس بقوتهم العسكرية".
وقبل أن أناقش ما أتفق عليه الأخوان المحترمان أود أن أضيف: أن نيكسون رئيس الولايات المتحدة كان قد طرد من فترة رئاسته الثانية بسبب الفساد.. وأنه مثلما أن إسرائيل انتصرت في حروبها انهزمت أيضا في حرب 6 أكتوبر 1973 وكذلك أمريكا التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية تمرغت كرامتها في وحول فيتنام وجبال أفغانستان ومعها الحلف الأطلسي.
الاتحاد السوفياتي السابق كذلك انتصر وانهزم وانهار وليس بسبب الفساد وحده وإنما للاستبداد والقمع وتسخير الجموع لجبروت القابع في الـ "كي جي بي" والحزب أو "الأخ الأكبر" حسب تعبير جورج أورويل في روايته العظيمة (1984)، كما انتصر نابليون قبل ذلك وانهزم، وحتى هتلر اكتسح أوروبا منتصرا ثم انهزم.. وقل مثل ذلك بشأن العرب والفرس والمغول والعثمانيين وفي مسيرة التاريخ كلها.. ففيها جميعها كان الفساد موجودا في الانتصار أو في الهزيمة!
إنه من المؤكد أن الفساد بكل أنواعه آفة خطرة على المجتمعات والأوطان في المستويين الخاص والعام.. إلا أن الفساد يظل درجة أدنى أو أعلى في سلم الخيانة للأمانة التي حين تمس أمن الوطن تبلغ أشنع مدى لها وتسمى بـ "الخيانة العظمى". ومع ذلك.. فلن نجد في كتب المفكرين سواء من بحاث التاريخ أو السياسة أو الاجتماع... إلخ ممن تناولوا بالدرس والتحليلات صراع الأمم والحضارات وحروبها من أرجع النصر أو الهزيمة للفساد وعقوبته بل حتى الخيانة العظمى إن تمت الإحالة إليها فلن تكون إلا إشارة إلى رأس جبل جليد الملابسات المغمورة.
فكيف بالمحترمين خالد وعبد السلام أن يقررا بالقطع الحاسم أنه لهذا السبب أي "إنفاذ العقوبة على الفاسد" انتصرت إسرائيل؟ مهملين جملة معقدة من العوامل والظروف هيأت للعدو الصهيوني أن ينتصر. وهو انتصار أراه على أي حال معلقا إلى حين.. فأنا ممن يؤمن أن إسرائيل في مأزق وجودي.
إن شئنا مقاربة لعوامل انتصار إسرائيل سيكون في مقدمتها القوة العسكرية الضاربة التي نفتها التغريدة، وحتما فهناك إلى جانب القوة العسكرية دور العلم والتقنية والانضباط ومعها ديمقراطية لا مغالطة فيها للدولة العبرية لكنها تضيق ذرعا حتى بأعضاء الكنيست من العرب الذين تتجمل بهم فما بالك بغيرهم من الفلسطينيين الذين تدهسهم بالطرد والاغتيال وهدم بيوتهم على رؤوسهم، ومثلها التربية العنصرية التي تكرس في الإسرائيليين أنهم مهددون من "الأغيار" وأن السبيل إلى مقاومة هذا التهديد هو حفظ درس "المحرقة النازية" والتذكير بها وابتزاز العالم بها أيضا.. لكي يتخلق اللاوعي الإسرائيلي بأخلاق النازي نفسه "لتلعب الضحية دور الجلاد" لكن ضد كل من ليس يهوديا!
أما الظروف فحسبنا تحالف أمريكي استراتيجي مع إسرائيل لا يهتز مهما تغضنت قسمات الوجوه أمام الكاميرات بين مسؤولي البلدين أو اخشوشنت الكلمات.. فالسلاح والأموال والخبرات لم تكف قط عن التدفق عليها.. وكم شهدت السماء جسورا جوية من أمريكا إليها تمدها بكل أنواع العتاد في مختلف الحروب التي خاضتها إسرائيل وشعر معها العم سام أن إسرائيل في خطر.. فضلا عن دعم سياسي ودبلوماسي دأب على تسخير المحافل الدولية وفي صدارتها الأمم المتحدة لمصلحتها حتى بلغت أرقام الفيتو الأمريكي في الانحياز المفرط لإسرائيل (33) فيتو ناهيك عن مواقف دول الغرب المراوغ لمصلحتها وحقيقة إتقان الإسرائيليين أنفسهم فن مخاطبة العقل الغربي الرسمي والشعبي واحتلاله.. مقابل نظام عربي متهالك وشعوب عربية منهكة ضرب الجهل والتخلف والفقر أطنابه في أرواحها وأجسامها وطحنها الفساد والاستبداد والخرافة.
وما لا شك فيه أن خالد وعبد السلام يعرفان ذلك.. غير أن مثار دهشتي هو كيف أدار كل واحد منهما ظهره لهذه الأسباب وغيرها وكيف تأتى لهما ذلك وهما مثقفان أن ينجرفا خلف هذا الاختزال اللامعقول.. ودهشتي تتعاظم إزاء الدكتور عبد السلام الوايل فهو متخصص في اجتماعيات العلوم والمعرفة الذي لا يركن في تحليله لأي ظاهرة اجتماعية، بالاعتماد على عامل واحد دون سواه، وإنما ينظر إلى جملة العوامل التي تشكل بروز الظاهرة .. سلبا أو إيجابا.
كان المفكر والفيلسوف هربرت ماركوز قد أعلن في منتصف القرن الماضي "موت السبب الواحد" في كتابات له أهمها كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" مع أن "السبب الواحد" كان قد تم نعيه قبل ماركوز بنحو 2500 عام على يد الإغريق خصوصا عند ديموقريطس وهيروقليطس.
أفبعد هذا يصح تعليل انتصار إسرائيل "أو سواها" لأن الفاسد تم عقابه "فحسب!" سواء كان هذا الفاسد أيهود أولمرت أو موشيه كاتساف.. وحتما هناك من غضت السياسة الإسرائيلية طرفها عنه! وإذا كان الانتصار حدثا ضخما مهيبا.. فالهزيمة أيضا وقعها جلل بالسلب.. وهذا ما دعاني إلى أن أورد في العنوان "ثقب الإبرة" فقد وجدت في اختزال خالد وعبدالسلام جملة الأسباب إلى مجرد سبب تطبيق العقاب على فاسد سياسي واعتبار ذلك معيار نزاهة يفسر به الانتصار ويعلل، وجدته اختزالا لا سبيل إلى قبوله عقلا ومنطقا وأنه أشبه ما يكون بمحاولة إدخال الفيل بثقب إبره.. على حد تعبير الشاعر الكبير الراحل توفيق زياد في قصيدة له بعنوان "المستحيل" قال:
"أهون ألف مره
أن تدخلوا الفيل بثقب إبره
وأن تصيدوا السمك المشوي في المجره
من أن تميتوا باضطهادكم وميض فكره
أو تحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه قيد شعره".
فهذه الفنتازيا الفنية الشاهقة أكثر من مذهلة لأن وقعها يحدث زلزلة تفت في العضد المعنوي للعدو الصهيوني من باب التحدي، غير أن الرأي الفكري لا تنفع معه محاولة إدخال فيل الانتصار من ثقب عقوبة الفساد ولن يعد ذلك سوى طفرة تبسيطية يصعب التجاور عنها من مثقف مستنير محارب بالكلمة ضد الفساد ومن أكاديمي نابه.. مجال تخصصه لا يقبل له هذا العثار.
لقد أوصى كاتب ألمانيا الكبير (جوته) في مجال الرأي أن (قل كلمتك وامش) وها قد قلت كلمتي بتجرد.. ولربما يرى المحترمان خالد وعبد السلام أو غيرهما أني (جعلت من الحبة قبة) أما أنا فأرى أن القبة هي التي تم جعلها حبة.. تحت تأثير شحنة عالية من الحسرة على حال العرب.. بكل تأكيد!