العالم .. في متاهة فقدان المعنى
يبدو المشهد العالمي اليوم في حالة أقرب ما تكون للسريالية.. منفلت.. مبدد.. منهك.. مرتبك.. مشوش.. منقلب على نفسه.. منزلق إلى التمييز من بوابة التبرير، وبما يشبه المغالطة.. فعلى حين إنه وضع دساتير ومواثيق لصيانة الكرامة والحرية والحقوق الإنسانية وجد نفسه يعاود فتح الدفاتر القديمة ويمحو سطورا ويعدل جملا ويضيف أخرى.
بدأت الحكاية مع صدمة 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في أمريكا بقانون "باتريوت" وبث الاحتراس سمومه في أوروبا إلى أن بلغ الحال بعاصمة الأنوار وحقوق الإنسان "باريس" تحت صدمة الإرهاب أيضا إلى التنكر لميراث مونتسكيو وجون لوك وجان ستيوارت مل وجان جاك روسو وفولتير بمعايرة محلية للحقوق الإنسانية.
كان ديوجين الكلبي الساخر السليط يحمل فانوسا في وضح النهار ـــ كما يقال ـــ قيل له: لماذا تفعل هذا.. يا ديوجين؟ قال: أبحث عن الإنسان وقيل إن الإسكندر وقف أمامه ذات يوم وسأله: أتعرف من أنا؟ فرد عليه "لا يهمني من تكون.. المهم ألا تحجب ضوء الشمس عني"، وقد قيل إن الإسكندر قال "لو لم أكن الإسكندر لتمنيت أن أكون ديوجين، ولا غرابة في أن تعنون منظمة اليونيسكو إحدى مجلاتها الشهيرة باسمه "ديوجين" كرمز مكثف للاستنارة.
فتح ديوجين الطريق لعظماء آخرين سعوا إلى استشراف مخرج مثالي للإنسان يقصيه عن الطغيان والفساد ويغمره بشهية الإقبال على الحياة والسعادة فيها.. كانت "جمهورية أفلاطون" فجر المحاولات ثم تلتها "المدينة الفاضلة" للفارابي، ويوتوبيا مورس مور، ومدينة الرب لسانت أوغسطن، ومدينة الشمس لكانيانلا، وأطلنطس الجديدة لفرانسيس بيكون، وفيما بعد حملت الثورات الفرنسية والأمريكية والبريطانية ثم البلشيفية فالصينية مشاريع تغرد في مجد الفردوس الأرضي القادم.. لكن أهازيج الفردوس سرعان ما خنقتها ويلات الاستعمار وحربان عالميتان انتهت الثانية منهما بإبادة ألوف الأبرياء التهمتهم حرائق قنبلتين ذريتين في دقائق، مثلما أزهقت ملايين الأرواح بمدافع المستعمر أو بنادق الثوار أو غارات الحروب.
ومع ذلك فقد انخرط الغرب في نقد ذاتي لما جرى، وساده قدر من الوئام وإحساس بالعدل والكرامة الإنسانية واحترام الحقوق.. وساد المعسكر الشرقي أيضا ازدهار مكتوم الأفواه.. وظل السجال الفكري محتدما.. فقد كان العالم قبل انهيار جدار برلين مشحونا بـ "المعنى" وكان ثمة خطابات تترافع عن مشاريع فكرية سواء فلسفية أو اجتماعية أو ثقافية وبالضرورة سياسية.
كان هناك متكأ فكري ثري صلب على صعيد النظرية ومثله على صعيد التطبيق قادما من عصور العقل والعلم والأنوار.. مدججا بالحجج والبصيرة من فلاسفة ومفكرين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم التطبيقية، ومدججا كذلك بمنجزات عظيمة على الأرض علما وعملا ومعاشا وسلوكا.. مشكلا على مدى العقود الماضية مرجعيات يرافع كل طرف بها ومن خلالها عن دوافعه، مضيفا إليها زاده المعرفي وخبرته المستجدين.
كانت هناك شروح أيديولوجية واضحة خطابا ومسلكا، إلا أنه مع ذلك كان ثمة "معنى" محسوس للعالم. أما اليوم فيبدو العالم أكثر كآبة من ذي قبل.. أكثر متاهة من ذي قبل.. أو قل أكثر غموضا والتباسا إلى حد القنوط.
فما الذي أفرغ العالم من المعنى؟ هل هي العولمة التي يذهب البعض إلى أنها تحاول قسر العالم إلى نمطية استهلاكية وحسب؟ أم هو إفلاس الحكايات الكبرى ـــ النظم الشمولية - على حد تعبير "هابرماس"؟ أم هو جنون الإرهاب الذي تجاوز في تسلله حدود الدول فتسلل كابوسه إلى مخادعنا؟
وإلا.. فكيف بديمقراطية الغرب التي نبذت العنصرية وأعلت من حرية الفرد في التعبير والاعتقاد وفي الحرص على الخصوصية.. كيف بها تعيد نكش دساتيرها وتمسح منها وتضيف لتخلع جنسية مواطن وتجاهر بطرد الأجانب أو توظف هيئاتها الأمنية لكي تتنصت حتى على همسات الوجد بين زوج وزوجته، أو تترصد كلمات دفء بين صديق وصديق؟ حتى بات مواطنو العالم في هلع من أن يكون ظلهم يشي بهم أو يراقبهم؟
كيف استنسخ اليمين مقولات اليسار وسلوكه وصار العكس صحيحا أيضا؟ وكيف بدأ التفتيش في الأصل والفصل والفرع والنسب والمعتقد وبات الحديث عنها هو مادة الأخبار والمحافل الدولية والمنتديات النخبوية والمجالس؟ على حين تُركت شعوب في عالمنا العربي في مصيدة جهنم البراميل المتفجرة، وقذائف الطائرات وهوس الانتحاريين وسعار الميليشيات وغيلان البحر والجوع والعراء والقهر تنهشها دقيقة دقيقة، فلا تكترث لها دساتير العالم ومواثيق الأمم المتحدة، سوى ما تنخرها به تصريحات الساسة في بازارات اللحم الحي تحت فحيح المصلحة البكماء الصماء العمياء إلا عن غريزتها النخبوية.. ففي عرفها، ما عداها لا تثريب على إطعامه غصص الكارثة.
تشرذم الشعور الإنساني.. وهرول اللا اكتراث في الضمائر.. وأصبح الحديث مبهما بلا معنى كأنه تعتعات "ايكو"، تلك الفتاة الأسطورية الساحرة الصوت التي عاقبتها "هيرا" بحرمانها القدرة على الكلام.. جعلتها فقط تردد آخر الحروف، كما في "الصدى".. يملأ دويه الأفق.. لكن بلا جدوى!
ألا.. ما أحوج العالم اليوم إلى صوت "ايكو" وفانوس "ديوجين".. فالتعتعة والظلام يغمرانه.. وما من عزاء بعد!