ماذا يحدث لفنزويلا؟
فنزويلا تجسد معضلة الاقتصاد النفطي الذي تعتمد الإيرادات الحكومية فيه بشكل أساس على النفط الذي يشكل فيه إنتاجه أهم مصادر الناتج المحلي وذلك عندما تأخذ أسعار النفط في التراجع. فإيرادات النفط تمثل نحو 95 في المائة من إيرادات صادرات فنزويلا، كما أن نصف إيرادات الحكومة الفنزويلية تأتي من النفط. فنزويلا هي أكثر الدول النفطية تأثرا بالتراجع الحادث في أسعار النفط. ففي عام 2015 تراجعت إيرادات فنزويلا من النفط بأكثر من 40 في المائة مع تراجع الأسعار.
فنزويلا تتعرض لأخطر أزمة اقتصادية في تاريخ البلاد، في ظل مزيج غريب من الخصائص، حيث تحتوي فنزويلا على أكبر احتياطيات النفط في العالم، بينما لا يجد الناس ما يسد رمقهم من الطعام، وقد لجأ الناس تحت ضغط نقص الغذاء إلى سرقته من محال بيع الغذاء، أو أثناء عمليات نقله، لدرجة أن الحكومة أصبحت تنقل الطعام تحت حماية مسلحة. والحاجات الأساسية للناس يتم تقنينها لدرجة أن الفرد يقضي ساعات وربما ليلة كاملة لكي يحصل على بعض متطلبات الحياة الأساسية مثل الأرز أو زيت الطعام. في ظل هذه الأوضاع تتوافر الشروط المثالية لنشأة سوق سوداء واسعة النطاق.
الناس في فنزويلا يعيشون مأساة إنسانية حادة، فالناس يموتون في المستشفيات غير المعدة أو المهيأة لاستقبالهم، أو من سوء التغذية الناتج عن نقص الطعام، لعدم قدرة الدولة على إنتاج احتياجاتها منه، أو لعدم قدرتها على استيراده من الخارج. نظرا لأن قدرتها الشرائية من الخارج قد تراجعت بشكل كبير مع انخفاض أسعار النفط. ووفقا لبعض الإحصاءات فمنذ 2012 تضاعف عدد الأطفال المواليد الذين يموتون داخل المستشفيات الفنزويلية 100 ضعف.
شبح المجاعة أصبح يخيم على فنزويلا، والجريمة تتصاعد بمعدلات مقلقة بما يهدد استقرار البلاد في ظل حكم الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي تقدمت المعارضة له بالفعل بطلب لترك الرئاسة وإعادة انتخابات الرئاسة مرة أخرى، وهذا يقف مادورو ضده. إنه بالفعل وضع مأساوي، فمادورو يرفض إجراء استفتاء على استمراره في الحكم من جانب، وبالتالي يغلق الأبواب أمام انتخاب رئيس جديد للبلاد، قد يكون لديه تصورات أفضل حول كيفية الخروج من الأزمة. مع الأسف في مقابل الدعوات التي تطالب الرئيس بالتنحي، أعلن مادورو حالة الطوارئ في البلاد في محاولة من الرئيس لإظهار أنه ينوي الاستمرار في السلطة، وأنه سيستخدم كل ما يملك من وسائل في سبيل هذه الغاية، وربما مع تدهور الحال يلجأ إلى إجراءات أخرى مثل حل البرلمان. ولعل ما قام به مادورو أخيرا من ربط الميزانية بشكل مباشر دون العودة للبرلمان يوضح طبيعة ما يمكن أن يقدم عليه مادورو.
السياسات الحكومية مسؤولة بالدرجة الأولى عن نقص الطعام والحاجات الأساسية، فسياسات التسعير التي تنتهجها فنزويلا تسمح بتقديم الطعام والمواد الأساسية من خلال منافذ حكومية بأسعار محددة من جانب الحكومة، وهي السياسات الاشتراكية المتبعة منذ الرئيس الراحل شافيز. هذه الأسعار الحكومية أدت إلى خروج كثير من المنتجين المحليين من مجال إنتاج الغذاء لسبب بسيط أنهم لا يمكنهم الاستمرار في الإنتاج بخسارة، لذلك تستورد فنزويلا معظم ما تحتاج إليه من غذاء من الخارج، وهي مهمة ممكنة طالما توافرت موارد النقد الأجنبي للدولة، أي عندما تكون الإيرادات النفطية كافية. أما عندما تتراجع إيرادات النفط فإن قدرة الدولة على تمويل شراء وارداتها من الخارج تصبح مقيدة إلى حد كبير ويحدث ما نشاهده حاليا.
تتجمع الأمراض الاقتصادية تباعا بشكل سريع في فنزويلا، فوفقا لصندوق النقد الدولي تعد الدولة صاحبة أكبر معدل للنمو السالب في العالم (- 8 في المائة)، وصاحبة أكبر معدل للتضخم أيضا (482 في المائة) سنويا، بينما يصل معدل البطالة إلى 17 في المائة، ومن المتوقع صعوده سريعا إلى 30 في المائة في السنوات القليلة المقبلة. الصورة التي يبينها صندوق النقد الدولي للاقتصاد الفنزويلي في السنة الحالية أكثر سوءا، حيث يتوقع تراجع النمو بنسبة 10 في المائة، وأن يرتفع معدل التضخم إلى نسبة 700 في المائة، وهي مرة أخرى أسوأ أداء للنمو في العالم، وأعلى معدلات التضخم عالميا. وعلى الرغم من أن فنزويلا تملك أكبر احتياطيات العالم من النفط، فإن الشركة المنتجة للنفط مفلسة، وإنتاج فنزويلا من النفط حاليا عند أقل مستوياته خلال 13 عاما وفقا لبيانات "أوبك". من الطبيعي أن تنعكس هذه التطورات على العملة الفنزويلية، التي فقدت نحو 99 في المائة من قيمتها خلال السنوات الخمس الماضية.
ولكن ما الذي أدى إلى تدهور الأمور على هذا النحو؟ لابد من الإشارة إلى أن مادورو قد ورث عن سلفه الرئيس الراحل شافيز اقتصادا مدمرا تقريبا، حيث بنى شافيز شعبيته على استخدام أموال النفط والديون من الخارج في دعم استهلاك الناس، في المقابل فإن المؤسسات الإنتاجية العامة لا تعمل على النحو الذي يخدم مصالح الناس. ما زاد الطين بلة تراجع أسعار النفط الأمر الذي أدى إلى تدمير المالية العامة للدولة التي تعتمد أساسا على إيراداتها منه، ومن ثم تراجع التصنيف الائتماني لفنزويلا وأغلقت نتيجة لذلك أسواق المال أبوابها في وجه الدولة.
في ضوء هذه القيود لم تجد حكومة مادورو من خيار سوى اللجوء إلى طبع النقود لسد العجز في المالية العامة، وهو ما دفع بمعدلات التضخم إلى التصاعد. ولم تجد الحكومة أيضا بدا من بيع رصيد الدولة من الذهب كي تدفع مستحقات الديون عليها، أو لتمول شراء احتياجاتها الأساسية. فنزويلا مطالبة اليوم بسداد نحو خمسة مليارات دولار قيمة سندات مستحقة خلال الفترة بين أكتوبر ونوفمبر المقبلين، من دينها الخارجي المقدر بنحو 125 مليار دولار، وكثير من المختصين يجزمون بعدم قدرة فنزويلا على الوفاء بالتزاماتها المالية ولذلك فإن فرصة الإفلاس تعد مرتفعة للغاية.
حكومة مادورو تتهم الولايات المتحدة بأنها تتآمر عليها لتعميق نطاق الأزمة، فضلا عن اتهام بعض رجال الأعمال اليمينيين بأنهم أوقفوا إنتاجهم من السلع والخدمات كي يركعوا الاقتصاد الفنزويلي.
فنزويلا تعد أحد أكثر الاقتصادات فسادا في العالم، فوفقا لمؤسسة الشفافية العالمية تعد فنزويلا تاسع أكثر الدول فسادا في العالم، ووفقا للتقارير المتاحة فإن عائلة مادورو ومؤيديه الأساسيين يشكلون تجمعا لتهريب المخدرات وتهريب رؤوس الأموال من فنزويلا.
باختصار فنزويلا بنظامها السياسي وهيكلها الإنتاجي الحالي تحولت إلى دولة فاشلة.