المرجعيات المعيارية لمشاهير التواصل الاجتماعي

بعفوية وبشكل غير مخطط وجد بعض الناس أنفسهم في خانة المشاهير المؤثرين حيث يتابعهم ويتفاعل معهم بما يطرحونه على مواقع التواصل الاجتماعي التي اختاروا الظهور فيها من خلال "تويتر، سناب شات، فيسبوك، يوتيوب"، ملايين أو مئات الآلاف من المتابعين الأمر الذي وضعهم أمام مسؤوليات جسام دون استعداد لذلك إذ إنهم في العادة لم يخططوا لهذه النجومية أو خططوا لها بشكل سطحي وفوجئوا بتحقيقهم شهرة واسعة ونجومية فاقت نجومية مشاهير الكُتاب، ورجال المال، والفنانين، والإعلاميين، والرياضيين إذا ما قيست النجومية بعدد المتابعين والمتفاعلين.
ويبدو لي أن كثيرا من الرموز الدينية، ورجال المال، والرياضيين، والفنانين، والكتاب وغيرهم ممن صنعوا شهرتهم ابتداء خارج وسائل التواصل الاجتماعي فوجئوا هم الآخرون أيضا بحجم المتابعين على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وكم ونوع التفاعلات من قبل متابعيهم بشكل مباشر وغير مباشر ما جعلهم يتعرضون لمواقف محرجة وغير مرغوبة أمام الرأي العام نتيجة لمشاركة في الـ "سناب شات" أو تغريدة غير موفقة نتيجة عدم التخصص والخوض في جميع المجالات التي يعرفونها والتي لا يعرفونها.
في بلادنا السعودية يشكل الشباب الغالبية من السكان وهم شباب فاعلون متفاعلون ويستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، حيث تبين الإحصاءات انتشار استخدام الإنترنت في جميع أنحاء المملكة واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي بأعداد مليونية وبنسب عالية نسبة إلى السكان ولمدد تتجاوز الساعتين يوميا الأمر الذي أتاح لكل شخصية لديها كاريزما وتتعرض لمواضيع تلامس هموم واهتمامات المتابعين أن تحقق النجومية بعفوية خاصة أن مواقع التواصل الاجتماعي لا تفرض قيودا ولا تتطلب المرور بلجان اختيار للوصول للجمهور كما هو حال المنصات التقليدية كالتلفزيون والصحف والإذاعة والمجلات والمنتديات والمؤتمرات.ولقد أسهمت البرمجيات سهلة الاستخدام التي تمكن المشاهير من إضافة المؤثرات لتجميل ما يقدمونه بعيدا عن الكلاسيكية في مجالات الإعلام التقليدي .
الوصول للجمهور العريض دون تخطيط ودون رؤية ودون تركيز في مجال معين وتقديم الرأي في مجالات كثيرة خارج نطاق تخصص المشاهير مقابل متابعة عريضة من جيل شبابي يتأثر بما يطرحه المشاهير لارتباطه العاطفي بهم أكثر من الارتباط المنطقي جعل كثيرا من النخب وأولياء الأمور وصناع الرأي يخافون على أبنائهم من التأثير السلبي لهؤلاء المشاهير لما يطرحونه من غث وسمين في آن واحد، ومما يقدمونه من إعلانات غير مباشرة بعد أن تخطفت كثيرا منهم الشركات لاستخدامهم للترويج لخدماتها وسلعها وأنشطتها التي جعلت الآباء يعانون صعوبة في السيطرة على أبنائهم وتوجيههم من ناحية، ومن السيطرة على تحركاتهم ومتطلباتهم المالية لشراء السلع والخدمات بشكل مفرط والمشاركة بالأنشطة بشكل مفرط كذلك وبتكاليف لا قبل للوالدين بها من ناحية أخرى.
أيضا الكثير يشتكي من تكاسل أبنائه عن متابعة دراستهم ومراجعة دروسهم وقضاء ساعات طويلة في متابعة نجومهم المفضلين على وسائل التواصل الاجتماعي والاقتداء بهم لجهة أحاديثهم واهتماماتهم وسلوكياتهم وأساليب تفكيرهم والسلع والمنتجات التي يفضلون دون تفكير، حيث يرون كل ما يفعله أو يقوله أو ينصح به نجمهم المفضل صحيحا، ويجب اتباعه إلا القليل الذين يعملون عقولهم ويغلبونها على عواطفهم وهم ندرة في سن الطفولة والمراهقة.
أحد المسؤولين عن التسويق في إحدى الشركات الكبرى يقول: "رغم عدم قناعتي بكثير ممن نتعاقد معهم من المشاهير للإعلان لمنتجاتنا، إلا أن النتائج المحققة من وراء الإعلانات التي نستخدمهم فيها نتائج مذهلة ما يؤكد تأثيرهم في متابعيهم بشكل كبير لا يمكن الاستهانة به". ويؤكد أن الإعلان معهم يفوق تأثير الإعلان في الوسائل التقليدية بشكل كبير ويمكن قياس أثره بشكل أسهل من ناحية مشاهديه وأماكن وجودهم وأعمارهم ومستوى تفاعلهم، إضافة إلى النتيجة النهائية المتمثلة في ارتفاع نسبة المبيعات، وهذا يؤكد أننا أمام مشاهير نجوم مؤثرين حقا. هذه الحقيقة المتزامنة مع القلق مما يطرحه مشاهير التواصل الاجتماعي تتطلب تدخل الأجهزة المعنية لا لكي تحد من الحرية والعفوية والفلسفة الأساسية التي بنيت عليها منصات التواصل الاجتماعي وإنما للتنظيم والتوعية والتأهيل من خلال إيجاد مرجعيات معيارية لمشاهير التواصل الاجتماعي تستخدم من قبلهم كمسطرة يقيسون على أساسها جودة ما سيطرحونه ويقدمونه للجمهور العام وفيما إذا كان مفيدا ونظاميا أو غير مفيد وغير نظامي، إضافة إلى تحفيزهم لتحمل مسؤولياتهم تجاه مجتمعهم بخدمة قضاياه ومشكلاته وهمومه ودعم جهود الدولة ـــ رعاها الله ـــ في تحقيق الأهداف التنموية في مجالاتها كافة.
نعم يجب إيجاد مرجعية معيارية للمشاهير لكيلا يؤثروا سلبا في المجتمع وقيمه ومفاهيمه، حيث يقع البعض في خانة عدم احترام الآخر واستنقاصه بشكل يخالف قيم التسامح والاحترام ومبادئ التربية الأخلاقية، في حين يروج البعض لاستهلاك الكماليات والإنفاق على المظاهر دون تقدير لأولويات الإنفاق، ويتدخل بعض المشاهير دون معرفة عميقة ووعي بالسياقات القائمة في قضايا دينية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية الأمر الذي قد يعقد هذه القضايا في أذهان المتابعين ويزرع في نفوسهم السخط والإحباط بدلا من التفاؤل والأمل المقرون بالتوكل والعمل الجاد، كما أن البعض يعلن لمنتجات وخدمات بخلاف حقيقتها لأهداف مادية بحتة دون رادع أخلاقي.
ولذلك لابد من معايير مرجعية في محاور متعددة تشمل على سبيل المثال لا الحصر المبادئ الأخلاقية، التركيز في مجالات محددة، الفهم والوعي العميق، نشر القيم والمفاهيم الأخلاقية، خدمة قضايا المجتمع، دعم مؤسسات المجتمع المدني والخيري، توعية المتابعين بما يفيدهم ويحفظ صحتهم وأموالهم ويجنبهم المزالق ومن ذلك الاستهلاك غير المنضبط.
أخيرا لا شك أن لجهود وزارة الداخلية في ضبط بعض مشاهير التواصل الاجتماعي الذين تجاوزا الحدود بما يطرحونه وإحالتهم إلى الجهات القضائية أثرا إيجابيا في توجيه المشاهير للنافع والمفيد، إلا أننا نطمح أيضا لمشاركة جهات أخرى ترعى المشاهير وتدعوهم لأنشطتها في وضع المعايير المرجعية لهم وتحفيزهم على الالتزام بها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي