اللغة العربية في حاجة إلى الحماية من التهميش

مر يوم اللغة العربية هذه السنة "18 من كانون الأول (ديسمبر)" دون أن أي اكتراث أو اهتمام، اللهم إلا بعض المقالات المتناثرة هنا وهناك.
وأغلب ما قرأته ـــ مع الأسف الشديد ـــ كان تكرارا لما يتم تداوله على أن لغة الضاد مهما تكالبت عليها الأخطار فإنها في مأمن لأنها لغة الذكر الحكيم والحديث الشريف.
وهناك من أقحم أبيات من الشعر قيلت في هذه اللغة الساحرة، وهناك من أسهب في مديحها وكدّس عبارات طنانة عن مآثرها.
حبّ اللغة العربية يجب أن يتجاوز العاطفة والعبارات اللفظية.
نحن في حاجة إلى إجراءات ملموسة للحفاظ على لغة الضاد من الضياع. المقالات والخطب والأشعار لن تجدي نفعا ولن تقاوم المد العارم للعامية واللهجات المحلية وتفكك الأواصر الثقافية بين الشعوب العربية.
أكاد أجزم أن ما يجمع الناطقين باللغة الإنجليزية من أواصر ثقافية غايتها الحفاظ على اللغة من التهميش والضياع أمتن وأقوى مما لدى الناطقين بالعربية.
أما لو أخذنا اللغة الفرنسية أو الألمانية، فإن للحديث شجونا.
الفرنسية لها مجمع علمي من أنشط المجامع في العالم، يراقب اللغة وممارستها مراقبة صارمة كي يحفظها من اللحن ويدرأ عنها أي محاولة للتهميش ويراقب استخدامها ونحوها وصرفها ومفرداتها.
وقلما تشاهد مثلا أكاديميا أو باحثا أو عالما ألمانيا أو فرنسيا يتحدث غير لغته في المؤتمرات العلمية. وحتى الإنجليزية، رغم كونها اليوم لغة العلم والمعرفة والتواصل على مستوى العالم، لها لجنة رقابية متمثلة في المؤسسة التي تطبع معجم مريم ـــ وبستر Merriam-Webster. هذه المؤسسة هي بمنزلة الحارس الأمين على اللغة الإنجليزية تؤشر إلى مواطن الخلل وتراقب استخدام اللغة على مدار الساعة.
وكثيرا ما دخلت مؤسسة مريم ـــ وبستر (وهي أمريكية المنشأ) في صراع مع كبار الكتاب والصحافيين والقادة ودور النشر في محاولة منها للتأشير على مناطق الخلل.
وآخر معركة خاضتها هذه المؤسسة دفاعا عن اللغة الإنجليزية كانت مع الرئيس المنتخب دونالد ترمب لأنه فقط أخطأ في كتابة مفردة واحدة في واحدة من تغريداته على موقع تويتر، فبدلا من أن يكتب unprecedented كتب unpresidented أي فقط وضع حرف s بدلا من c عند كتابته لهذه الكلمة.
اللغة العربية قد تكون واحدة من أكثر اللغات في العالم التصاقا بثقافة الناطقين بها، إلا أنها تفتقر إلى أغلب المستلزمات التي تحفظ لها ديمومتها كي تدخل العصر الحديث الذي تقوده الرقمنة التي تمنح حرية واسعة لمستخدمي اللغة وبالطريقة التي يرتؤونها ولا سيما في غياب رقيب ومحاسب أو دليل ومنهج.
وكي تدخل لغة الضاد عصر الرقمنة وهي سليمة، ولرونقها وهيكل نحوها وصرفها محافظة، أقترح ما يلي:
أولا، إنشاء مجمع لغوي على المستوى القومي "يمثل الدول الناطقة بالعربية كلها"، يكون له دور رقابي على استخدام لغة الضاد وتكون قراراته ملزمة. هذا المجمع يراقب تقريبا كل شيء من الإعلان إلى خطب وتصريحات القادة والسياسيين وكذلك الإعلام والصحافة. قلما ترى إعلانا في المملكة المتحدة مثلا مكتوبا بلغة إنجليزية غير سلمية. أثناء وجودي في الخليج العربي، صعقت لما شاهدته من كتابات مملوءة بالأخطاء وتعرج على العامية، بينما هي تحتل مكانا بارزا في الأسواق والإعلام وغيره.
ثانيا، تبسيط النحو والقواعد. قواعد اللغة العربية وطريقة تدريسها ما زالت تركيبية وتقليدية. نحن في حاجة إلى نحو وظيفي يأخذ استخدام اللغة الفصيحة في العصر الحديث في عين الاعتبار من حيث الأمثلة والنهج. لا ضير أن نقتبس من الكتاب المحدثين عند تدريس النحو ونجعل من أساليبهم الحديثة منهجا بدلا من الاستناد دائما إلى أمثلة كلاسيكية قديمة لا يتماشى استخدامها مع العصر الحديث وتطور اللغة. أشهر كتاب لي هو في استخدام اللغة الإنجليزية واشتهر لأن أغلب الأمثلة التي أسوقها فيها مقتبسة من الإعلام الإنجليزي الرصين، حيث تلتزم الوسائل الإعلامية بقواعد النحو والصرف الحديثة التزاما كبيرا:
http://bookboon.com/en/where-you-may-get-it-wrong-when-writing-english-e...
ثالثا، إعادة كتابة المناهج باللغة العربية بطريقة تتماشى مع عصر الرقمنة والعصر الحديث دون المساس برونق اللغة وجوهر نحوها وصرفها. من ثم يجب التذكير أن ليس كل مستخدمي اللغة في حاجة إلى كتب منهجية من نوع واحد. اللغة العربية في الصحافة لها خصائصها "أي نحوها وصرفها ومفرداتها وتعابيرها وغيرها" التي تجعلها مختلفة في مناح كثيرة عن اللغة المستخدمة في الدراسات الدينية مثلا. أي علينا التفكير بجدية في أن اللغة شيء خاص يختلف استخدامه من حقل إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى.
رابعا، العمل الجدي على أن تكون مناهج اللغة العربية متقاربة في كل الدول الناطقة بلغة الضاد.
وأخيرا، العمل الحثيث على تقليل عدد المدارس الأجنبية، بل إلغاؤها أو فرض العربية في جميع مناهجها ولا سيما في المراحل التعليمية الأساسية مثل الابتدائية والمتوسطة. من تجربتي وعلى الخصوص في الدول الخليجية أرى أن الطلبة على المستوى الجامعي يخفقون في تكوين جمل عربية سليمة. ومن ثم فإن معلوماتهم شحيحة جدا عن ثقافتهم وتاريخهم وأعلامهم ورموزهم وأشعارهم وأدبهم. تلقي المعرفة والتربية والعلوم بلغة أجنبية غير العربية في مستهل التعليم يمسح الذاكرة الثقافية والتربوية بلغة الضاد ــــ ولغة الضاد هي وعاء الثقافة العربية والإسلامية، ومن هنا خطورة هذه المدارس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي