هذا ما حدث في «المنتدى الاستراتيجي العربي»
عدت “للتو” من دبي التي تسابق الزمن كعادتها لتسجيل الأسبقية في كل ما هو مبتكر وجديد، في عالم بات سجين العبث والفوضى وشلالات الدم وظواهر التطرف والإرهاب.
والحقيقة أن دبي، بل الإمارات بأسرها، تبدو في كانون الأول (ديسمبر) من كل عام أكثر جمالا وتألقا بسبب طقسها الشتوي الرائع من جهة، وفعالياتها المتنوعة من جهة أخرى. لكن كانون الأول (ديسمبر) هذا العام كان مختلفا لأنه حفل بأنشطة متتالية ومتزامنة، حيث لم تترك لوسائل الإعلام متسعا من الوقت لالتقاط الأنفاس.
فما أن فرغت البلاد من احتفالاتها بالعيد الوطني الـ 45 لقيام الدولة، إلا وكانت على موعد مع حدث كبير آخر هو زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي حرص على أن تكون الإمارات هي محطته الأولى في جولته الخليجية الأخيرة في إشارة بالغة الدلالة على ما بات يربط البلدين الشقيقين من شراكة مصيرية استوجبتها الظروف الإقليمية الخطيرة التي يمر بها الإقليم.
وما إن انتهت زيارة الضيف السعودي الكبير، إلا ودارت عجلة جملة من الفعاليات والأنشطة في آن واحد. فمن اجتماعات القمة العالمية لرئيسات البرلمانات التي اختتمت أعمالها بإصدار “إعلان أبو ظبي” الداعي إلى العمل من أجل رفاهية وازدهار وسلام شعوب كوكب الأرض، ووضع الاستراتيجيات الهادفة إلى التنمية المستدامة والاستجابة لمطالب الشعوب في الحياة الكريمة، وتضييق الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية، وتعزيز قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، إلى المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي (فكر 15) الذي انعقد هذا العام في أبو ظبي بحضور ثلة من المفكرين والشخصيات المرموقة لبحث أجندة اشتملت على كيفية تحقيق التكامل الاقتصادي والتنموي والأمني العربي مع التشديد على التكامل الثقافي باعتباره الحصن المنيع لمواجهة أفكار الإرهاب والتطرف.
في الوقت نفسه كانت دبي الشاهقة بناطحات سحابها كما بأخلاق حكامها وناسها تحتضن الدورة الـ 13 لمهرجان دبي السينمائي في مسرح سوق مدينة الجميرا، حيث تم توزيع جوائز “مهر دبي السينمائي” بحضور مجموعة من الفنانين والمخرجين والمنتجين ومبدعي الفن السابع، وفعاليات الموسم الخامس من مهرجان الرحالة العالمي التي نظمها رحالة الإمارات وحضرها 35 رحالة من مختلف دول العالم ممن عرضوا صورهم ومقتنياتهم وتحدثوا عن مغامراتهم وحكاياتهم مع السفر واكتشاف بلاد المعمورة. إلى ذلك كانت هناك في القرية العالمية بدبي فعاليات وعروض فولكلورية شهيرة ومميزة ضمن برامج حكومة دبي المنتظمة على مدار العالم لتكريس عالمية الإمارة وتعزيز طابعها التسامحي وصورتها الإنسانية كحاضنة لأكثر من 120 جنسية، كما شهدت دبي في الوقت نفسه الدورة الثانية لقمة رواد التواصل الاجتماعي التي اختتمت أعمالها بتوزيع جوائزها لمختلف الفئات في مركز دبي التجاري العالمي.
على أن الحدث الأبرز الذي استضافته دبي، من وجهة نظري الشخصية، كان جلسات المنتدى الاستراتيجي العربي الذي أخذت حكومة دبي على عاتقها تنظيمها سنويا من أجل استشراف آفاق الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم في السنة التالية من خلال توقعات ومرئيات مجموعة من المفكرين وصناع القرار السابقين.
وقد تميز لقاء هذا العام بمشاركة شخصيات معروفة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي مثل: نتاليا تاميريسا من صندوق النقد الدولي “توقعت أن يكون المشهد الاقتصادي الإقليمي في العام المقبل متفاوتا بين الدول العربية في ظل نجاح بعضها في تنويع اقتصادياتها ومحاولات بعضها الآخر تحقيق النجاح في ظل الصراعات الدائرة وتأرجح أسعار النفط”، وجورج قرم وزير المالية اللبناني السابق “قال إن دول مجلس التعاون تسير على الطريق الصحيح لجهة الانتقال إلى اقتصاد متنوع، على الرغم من توظيف 80 في المائة من استثماراتها في القطاعات النفطية والعقارية والسياحية، فيما الأفضل لها أن تقتدي بدول شرق آسيا التي ركزت على الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا والمعرفة والابتكار”، وإيان بريمر رئيس مجموعة يورو آسيا (توقع أن تكون حالة عدم الاستقرار السياسي في أعلى مستوياتها خلال 2017، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة في ظل رئيسها المنتخب دونالد ترمب ستكون من أهم مسببات هذه الحالة، ومشيدا بالإمارات التي اعتبرها تمثل نموذجا لحكومات العالم المستقبلية من حيث المرونة إزاء التغيير والقدرة على إيجاد البيئة الأنسب لمواطنيها للمساهمة في إحداث التغيير الإيجابي)، إضافة إلى كل من ليون بانيتا مدير وكالة الاستخبارات ووزير الدفاع الأمريكي السابق، وديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا السابق، وغسان سلامة وزير الثقافة اللبناني السابق.
ولعل أكثر ما استفزني واستفز غيري هو ما ذهب إليه ليون باتينا من أن العالم إذا ما أراد الأمن والاستقرار فإنه يحتاج إلى قيادات عالمية حازمة وغير مترددة وقادرة على وضع خطوط حمراء لما هو مقبول وغير مقبول دوليا. وسبب الاستفزاز هو أن الرجل لم يقل مثل هذا الكلام الجميل لرئيسه باراك أوباما يوم كان ضمن طاقمه الوزاري. أما ديفيد كاميرون فقد حاول التهرب من مسؤوليته في إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالقول إن الاستفتاء الذي أجراه كان مطروحا على الدوام ضمن أجندات الحكومات البريطانية المتعاقبة، كما حاول الإيحاء بأن سياسة خليفته تيريزا ماي لجهة الانخراط مجددا في تأمين الأمن والاستقرار في منطقة الخليج إنما كانت جزءا من خططه التي كان سينفذها لو قدر له البقاء في السلطة، وذلك على الرغم من إجماع المراقبين على أن تلك السياسة أملتها خسائر بريطانيا الاقتصادية المتوقعة من خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وأخيرا فإن ما حظي بالاهتمام هو الرد القوي من جانب رئيس وزراء لبنان الأسبق فؤاد السنيورة على المتحدث غسان سلامة الذي كاد أن يسخر من أهمية التطورات الأخيرة في لبنان لجهة تعزيز مفهوم الدولة اللبنانية، في معرض سؤال لكاتب هذه السطور حول توقعاته فيما يخص أوضاع لبنان بعد انتخاب الرئيس ميشيل عون، وقرب تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري، وعودة دول الخليج للاهتمام بالملف اللبناني. حيث قال السنيورة إن مفهوم الدولة في لبنان لم يختل إلا بسبب تغول حزب الله (الإرهابي) المدعوم من إيران.