قدرة منشآت القطاع الخاص ومواجهة تحولات المستقبل
تأثر الأداء الاقتصادي الكلي بالأوضاع الاقتصادية والمالية غير المواتية خلال 2015، وامتدت آثارها إلى مختلف نشاطات الاقتصاد المحلي بنسب متفاوتة، نتج عنها تباطؤ النمو الحقيقي للاقتصاد من 3.64 في المائة خلال 2014 إلى نحو 3.49 في المائة خلال 2015، كما تراجع النمو الحقيقي للقطاع الخاص خلال الفترة نفسها من نحو 5.37 في المائة إلى 3.38 في المائة.
انعكست وفقا لذلك، كل تلك التطورات الاقتصادية غير المواتية على أداء أكبر 100 شركة سعودية، وشكلت ضغوطا دون شك على نشاطاتها التشغيلية، شهدنا نتائجها على صافي الأرباح خلال 2015 بانخفاضها بنسبة 12.2 في المائة، لتستقر عند 103.1 مليار ريال، مقارنة بنحو 117.4 مليار ريال بنهاية 2014، إلا أن أكبر 100 شركة سعودية، عززت في المقابل رغم تلك التطورات الاقتصادية من مراكزها المالية وحقوق الملكية، بارتفاع قيمة أصولها خلال الفترة نفسها بنسبة 2.7 في المائة، لتستقر عند 3.8 تريليون ريال، وارتفاع حقوق الملكية بنسبة أعلى بلغت 9.4 في المائة، لتستقر عند أعلى من 1.0 تريليون ريال.
تشكل الـ 100 شركة الأكبر في القائمة الثقل الأكبر في القطاع الخاص، وتواجه كغيرها من أجزاء الاقتصاد السعودي الكثير من التحديات الجسيمة، الناتجة عن ضغوط استمرار انخفاض أسعار النفط للعام الثالث على التوالي، الذي ترتب عليه العديد من السياسات الاقتصادية والمالية الكلية، كان أبرزها الترشيد الكبير في الإنفاق الحكومي، وتحديدا في جانبه الرأسمالي المتعلق بالإنفاق على المشروعات الحكومية، بما يمثله من ثقل بالغ الأهمية في قناة التدفقات المالية الداخلة لمنشآت القطاع الخاص. هذا إضافة إلى زيادة الاعتماد على القطاع الخاص وفقا لـ"الرؤية الشاملة 2030"، ووفقا للسياسات الاقتصادية والمالية متوسطة وقصيرة الأجل في الوقت الراهن، بما تضمنته من ضرورة زيادة توطين فرص العمل أمام العمالة الوطنية، وزيادة مزاحمة القطاع الحكومي للقطاع الخاص على الائتمان البنكي المحلي، بهدف تمويل عجز المالية العامة، الذي شهد انخفاضا في ضغوطه من بعد منتصف العام الجاري، وأخيرا وليس آخرا، خضوع القطاع الخاص لمحصلة ضغوط إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني بشكل عام، واستمرار سياسات ترشيد التحفيز الحكومي على مستوى مصادر الطاقة والكهرباء والمياه، التي يتوقع استمرارها لعدة أعوام مقبلة، بالتزامن مع التقلبات المحتملة للدورة الاقتصادية مستقبلا، يتوقع أن يواجه القطاع الخاص ضغوطا عديدة طوال الأعوام القليلة المقبلة، وصولا إلى مستويات ملائمة من التكيف مع المعطيات الجديدة على الاقتصاد، ستلعب الملاءة المالية الجيدة للشركات والمنشآت دورا كبيرا في توفير تلك القدرة من عدمها للتكيف، مع عدم استبعاد ما قد تتعرض له من انكماش محتمل في هوامش أرباحها، ينتظر أن ينجح العديد من الإجراءات الحكومية الاستثنائية الداعمة في مساعدة أكبر قدر من منشآت القطاع الخاص على امتصاص آثار تلك الصدمات المحتملة.
يمكن اختصار التحديات التي تواجهها منشآت القطاع الخاص خلال الفترة الراهنة ومستقبلا في خمسة تحديات، مع عدم إغفال بقية التحديات الأخرى إلا أن التحديات المذكورة هنا، تعد أبرزها اللازم اتخاذ التدابير الكافية ليتجاوزها القطاع الخاص: التحدي الأول: أنه نتيجة للرعاية الحكومية المفرطة، ممثلة في حوافز انخفاض تكلفة استهلاك الطاقة محليا، أفرز لدينا منشآت "مدمنة جدا" لتلك الحوافز، وقد شهدنا كيف بدأ العديد منها يترنح بمجرد بدأت الحكومة في تخفيف وسحب تلك الحوافز مطلع العام الجاري، وسيزداد عليها الضغط مستقبلا تحت التخفيف المتدرج لتلك الحوافز، ولا يستثنى من هذا الإدمان كبيرا أو صغيرا بين منشآت القطاع الخاص.
التحدي الثاني: أيضا أفرز الاعتماد المفرط لدى شريحة كبيرة من منشآت القطاع الخاص على تدفقات المناقصات الحكومية؛ إدمانا مضاعفا لدى تلك المنشآت "تحديدا قطاع المقاولات"، شهدنا تهاوي العديد منها بمجرد بدء الحكومة ترشيد الإنفاق الرأسمالي قبل حتى أن يمضي عاما ماليا واحدا، وتأثر أغلبها كثيرا من تأخر صرف مستحقاتها، بما يثبت بنسبة كبيرة جدا اهتراء كفاءة إداراتها إلى درجة بعيدة جدا.
التحدي الثالث: أفرزت البيئة المهترئة لقطاع الأعمال، مئات الآلاف من المنشآت التي تأسست ونمت وتوسعت على الاستيراد بالجملة من خارج الحدود، والبيع بالتجزئة داخليا، وتحت إدمان "الحوافز الحكومية" المتعلقة باستهلاك موارد الطاقة، إضافة إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي طوال الفترة الذهبية لأسعار النفط، وارتفاع القوة الشرائية لدى الأفراد، إضافة إلى الزيادة السكانية الكبيرة نتيجة الزيادة الهائلة لاستقدام العمالة الوافدة (جاء أغلبها من قطاع المقاولات)، نتيجة لكل ذلك تحقق لتلك المنشآت هوامش أرباح هائلة، سرعان ما بدأت في التقلص بمجرد انعكاس تلك الظروف الاقتصادية والمالية.
التحدي الرابع: أفرزت أيضا هذه الأنماط الأعلى سيادة في أروقة القطاع الخاص (مقاولات، استيراد بالجملة والبيع بالتجزئة)، على مستوى فرص العمل، وظائف متدنية المهارات ومتطلبات التعليم، كانت أحد أكبر الأسباب وراء ارتفاع استقدام الملايين من العمالة الوافدة متدنية التعليم والمهارة، في الوقت ذاته لم تكن ملائمة للباحثين عن فرص عمل من المواطنين والمواطنات ذوي الشهادات العليا، لهذا نقف اليوم أمام تكدس عشرات الملايين من العمالة الوافدة، وفي الوقت ذاته نعجز جميعا عن إيجاد فرص العمل الملائمة لمئات الآلاف من العاطلين والعاطلات من المواطنين، ولولا التفاف الكثير من منشآت القطاع الخاص على برامج التوطين عبر (التوطين الوهمي)، لوقفت أمام معدلات بطالة حقيقية غير مسبوقة في تاريخنا الاقتصادي.
التحدي الخامس: لم تقف نتائج سيطرة تلك التشوهات الهيكلية على بيئة الأعمال المحلية عند هذا الحد، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير؛ فنتيجة لما تقدم ذكره، وأهمها تكدس العمالة الوافدة لدينا بأعداد هائلة جدا، نشطت وتوسعت أشكال "اقتصاد الظل"، وتوغلت أشكال التستر التجاري إلى أقصى درجات توغلها في أغلب النشاطات الاقتصادية والتجارية والصناعية والخدمية محليا، تحولت عبر سنوات طويلة إلى كيانات عملاقة تستحوذ في الخفاء على أغلب الأسواق المحلية، عجز في مواجهتها أغلب صغار رجال الأعمال المواطنين، ووصلت آثارها السلبية حتى إلى منافسة المنشآت الكبرى والمتوسطة.
بناء عليه؛ تنطلق الإجراءات والحلول الاستثنائية خلال الفترة الراهنة ومستقبلا، الهادفة لمساندة القطاع الخاص على تجاوز تلك التحديات من: أولا: ضرورة تشجيع وحماية ودعم المنشآت التي يكفل وجودها تحقق رؤية اقتصادنا الوطني، بأن يكون منتجا ومنافسا ومبتكرا. مع التأكيد على تمييز المنشآت حسب أهميتها في ميزان القيمة المضافة للاقتصاد الوطني، كلما كانت ذات وزن نسبي أكبر، كلما تطلب الأمر أخذ ذلك في الحسبان للمحافظة على استمرارها، والعكس صحيح. في الوقت ذاته؛ يجب التأكيد على أن الإصلاح الاقتصادي الكلي الشامل الذي تقوده "رؤية المملكة 2030"، أمر لا يمكن التراجع عنه بأي حال من الأحوال. ثانيا: سينتج عن تحولات اقتصادنا الوطني تهاوي عددا من منشآت القطاع الخاص، وهو أمر صحي إذا أمعنت النظر بداية في التشوهات التي أدت إلى وجود تلك المنشآت، والخيار المتبقي لديها في الظروف الراهنة، إما أن تقوم بالتكيف مع الوضع الجديد للاقتصاد الوطني، أو أن تنتهي وتتوقف! ذلك أنه في المقابل، سينتج عن تحولات الاقتصاد الوطني وفق "رؤيته الشاملة 2030" فرصا استثمارية واسعة وعديدة، تتمتع بأهليتها للنمو والبقاء، بما يخدم احتياجات الاقتصاد الوطني، وفي الوقت ذاته تكون قادرة على توفير فرص العمل الملائمة من حيث الدخل والمهارات اللازمة لمخرجات التعليم من المواطنين والمواطنات، وهي تلك التي تستحق الدعم والتحفيز والحماية ومنح التسهيلات اللازمة لها من قبل الدولة خلال الأعوام القليلة المقبلة. والله ولي التوفيق.