كيف نجادل «بالتي هي أحسن»؟
لا بد أن يحس القارئ اللبيب أن عنوان رسالة هذا الأسبوع يتضمن إشارة إلى آية من الذكر الحكيم هي تقريبا على كل لسان. الجدل مهم للحياة وتطورها، ولولاه لما حدث الرقي في الحضارة الإنسانية ولبقينا نراوح في الحلقة ذاتها.
الفكر ينمو بالجدل. الأمم تلتقي وتتعارف وتتآلف من خلال الجدل. والجدل يشجع الناس على قبول المختلف كما هو وليس كما أريده أنا.
عندما يتوقف الجدل، يتقهقر الفكر. وتقهقر الفكر معناه تسلط جانب واحد من الجدل وعدم سماحه للطرف الآخر بأن يدلو بدلوه بحرية.
إن قبلنا الدخول في جدل متكافئ وجادلنا "بالتي هي أحسن"، فسنتمكن من معرفة أنفسنا ومعرفة الآخر.
انعدام الجدل أو غيابه، يولد الغلو والتطرف. والغلو والتطرف في أي شيء في الحياة حتى وإن كان شرب الماء وأكل الخبز له من الأضرار ما يفوق المنافع.
لا أريد وليس من اختصاصي أن أكون شارحا للآية الكريمة التي ترد فيها عبارة "وجادلهم بالتي هي أحسن". بيد أن كل نص مهما كانت قدسيته لدى أصحابه، هو خطاب. ومشكلة أي خطاب، ولا سيما الذي يراه أصحابه مقدسا، تكمن في أننا من الصعوبة بمكان أن نتفق على تفسير محدد له أو نتخذ موقفا موحدا منه.
كل النصوص، خصوصا التي ترى أصحابها أنها تسمو فوق إمكانية البشر لقدسيتها لديهم، هي حمالة أوجه.
ولأنها كذلك، فنحن في حاجة ماسة دائما إلى الجدل للتواصل والتسامح وقبول الآخر المختلف.
والمختلف ليس فقط الذي له دين أو مذهب أو ثقافة أو لون أو جنس أو عرق يميزه عني.
الاختلاف اليوم متوافر حتى بين الدين والواحد والمذهب الواحد والفكر الواحد والثقافة الواحدة واللون الواحد والجنس الواحد والعرق الواحد.
الجدل هو الذي يقرب الناس إلى بعضها ويجعل من الاختلاف نعمة.
وعندما يدخل المختلفون في حوار مع بعضهم بعضا، شريطة أن يكون "بالتي هي أحسن"، يزداد تآلفهم ومعرفتهم لبعضهم بعضا.
اليوم أخشى أننا قلما نرى أو نلحظ ضمن الخطاب الدارج بين الناس أو الخطاب الإعلامي أو غيره جدلا "بالتي هي أحسن".
الجدل إن وجد، تسوده السلطة الفكرية واحتكار المعرفة لأي طرف من أطراف الحوار. والسبب واضح؛ كل طرف لا يرى ما لديه صحيحا ومقدسا ولا شائبة فيه، فحسب بل غايته التأشير إلى ما يراه مثلبة وفشلا وكفرا لدى الآخر وإلغاءه فكرا وحتى أحيانا ممارسة.
ومن ثم قلما نرى أن طرفا يقبل أن يسمع ما لدى الطرف الآخر دون مقاطعته بالقول إن ما يأتي به غير صحيح وغير مقبول وقد يرتقي إلى درجة الكفر ولهذا يجب إسكاته بأي وسيلة ممكنة.
ورغم أن هذه حالة بشرية عامة، إلا أنها أكثر شيوعا في منطقة الشرق الأوسط، حيث يغيب الجدل "بالتي هي أحسن".
وأخطر جدل الذي يرفض النقاش والحوار "بالتي هي أحسن" هو الخطاب الذي يأتينا من رجال الدين ودعاته وشيوخه وقسسه وحاخاماته أو غيرهم.
هؤلاء يزرعون الفكر الثنائي، أي أن الحياة وكل ما فيها هي إما خيرا وإما شرا. الخير هو أنا والشر هو المختلف.
أي تقسيم أو تفسير أو جدل يستند إلى ثنائية الخير والشر لا يتفق مع "وجادلهم بالتي هي أحسن".
الفرز الثنائي ليس جدلا بل تخلفا.
عندما أقول: "لن أناقشه لأنه على باطل" أو أن ما لديه من خطاب وممارسة مبنية على الباطل، في الحقيقة أنا أقتله وهو حي.
ولأهمية الجدل، فإن هناك دولا فائقة الحضارة والتطور في شتى مناحيه مثل فنلندا والنرويج والسويد تتبنى مبدأ الجدل "بالتي هي أحسن" ضمن مناهجها التعليمية ومنذ مراحلها المبكرة.
غاية هذه المجتمعات هي غرس فن الجدل في الناشئة من تلاميذ المدارس والجامعات وأن كل شيء تقريبا في الحياة قابل للأخذ والرد والنقاش والحوار.
وما المناظرات التي يؤديها الطلبة بحضور الأساتذة في شتى المواضيع دون حرج وبحرية إلا مظهر من مظاهر قبول الآخر مهما كانت درجة اختلافه.
اليوم تحتل مناهج حلّ الصراعات الفكرية وغيرها وبجميع أشكالها مكانها البارز في الدراسات الجامعية وصارت تأخذ أبعادها ضمن العلوم المختلفة.
والجدل لا بد منه ولكن يجب أن يكون "بالتي هي أحسن".
وهذا معناه أن ما لديك من فكر وموقف ودين ومذهب ولون وجنس وغيره له من القدسية والسمو والمكانة تساوي ما لدي من فكر ودين وموقف ومذهب ولون وجنس وغيره.
ولهذا من حقك أن تعبر عن ذلك وتمارسه "بالتي هي أحسن" كما من حقي أن أعبر عن الذي لدي وأمارسه "بالتي هي أحسن".
أنا أمنحك حق الجدل "بالتي هي أحسن" بصورة متكافئة ومتساوية لما لدي.
وهذا بالطبع لا يعني أنني سأتقبل ما لديك أو أؤمن به، ولكن لن أغمط حقك في التعبير عنه وممارسته "بالتي هي أحسن"، كما أدعوك ألا تغمط حقي في التعبير وممارسة ما لدي "بالتي هي أحسن".
"وجادلهم بالتي هي أحسن".