كيف يتحول الجلاد إلى ضحية؟
لا شك أن توفير اللقاحات المضادة للإصابات الفردية، هو الحل الوحيد الذي يحول دون تحولها إلى وباء فاتك. حقيقة تبدو "نظريا" أوضح لنا من شمس تموز، لا مجال فيها لأي التباس أو سوء فهم! أما "تطبيقيا" وعلى أرض الواقع، فقد تتعرض لكثير من التشويش.
خذوا هذه الحادثة مثلا، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي أخيرا تسجيلا صوتيا للطبيب العربي الذي تعرض لشتائم عنصرية قاسية إبان رفضه لطلب "غير قانوني" من أحد المراجعين. لن أسترسل في سرد حيثيات ما حدث، واسمحوا لي بدلا ـــ يا سادتي الكرام ـــ أن أسلط بعض الضوء على ردود الأفعال تجاه ما سمعناه في ذلك التسجيل.
يؤسفني القول إن أساليب التعامل مع المصائب تفتضح أحيانا مصائب أعظم. أصبحنا وكأن ردود أفعالنا باتت محسوبة مسبقا، ولها "درجة حرارة"، أو بمعنى أدق "درجة برودة" لا تغادرها! ولولا ذلك لما تجرأ القاتل على التنكيل بضحيته.
شهدت صفحات التواصل الاجتماعي تحالف الكثيرين من محدودي الوعي مع الطغيان، منددين بموقف الطبيب الذي تعمد الاستفزاز على حد قولهم! ومن خلال استعراض بعض الردود، تكشف الستار عن الكثير من المفاهيم "منتهية الصلاحية" وواسعة الانتشار، التي تقع في المنطقة "الرمادية" بين القاتل والقتيل. وتسهم في قلب الموازين ـــ بقدرة قادر ــ لمصلحة المعتدي على حساب المعتدى عليه. وهكذا، يصبح الجلاد "ضحية"، الأمر الذي يضاعف قدر الأسى.
وبطبيعة الحال، ذلك الطبيب لم ولن يكن هو الضحية الوحيدة التي أصبحت جلادا. سنجد لهذه الظاهرة تجليات وانعكاسات عديدة في أي صورة للتفاعل بين البشر، سواء أكان ذلك التفاعل في محيط الدائرة القريبة منا "العائلة"، أو على نطاق أبعد "الأصدقاء والمقربين"، أو في أي من مناحي حياتنا العامة "المجتمع". ولأن الإدارة ما هي إلا صورة مصغرة لما يدور في الحياة الطبيعية، لن تسلم "المنظمات" من ذلك، وسنرى الكثير من الجلادين الصغار (تحت إمرة جلادين أكبر منهم) في مجتمعاتنا الوظيفية. وهذه حقائق لا يمكن لأي عاقل إنكارها، الأمر الذي يحتاج إلى تأمل عميق ودراسة واعية لحل هذا الاشتباه أو الـ "تغبيش" على ملامح الضحية وجلادها.
فلنتحدث على نطاق "المجتمع"على سبيل المثال. كم من فتاة تعرضت للتحرش أو الاغتصاب، ثم ظهر المعتدي بمظهر الضحية وأصبحت هي الجلاد التي "فتنته" و"أثارت غريزته بمظهرها"؟ وكم في "منظماتنا العربية" من مسؤول تنمر وتسلط واستأسد بغير حق على فرد أو مجموعة "أضعف"، معتبرا أنه صاحب حق، وأن الضحايا ما هم إلا موظفون كسالى يستحقون التأنيب؟ وقد يكون غياب مفاهيم القيادة والمساءلة، والخروج عن المعايير المهنية والأخلاقية هما أكثر ما يمهد الطريق لظهور هذه الممارسات المشينة.
وعلى ما يبدو، فإن الحديث عن الجلادين "ذو شجون"، إذ إنهم في عمومهم على درجات، أعلاها عندما تجتمع في الجلاد صفات ثلاث: اللؤم والجهل والغباء! أمثال هؤلاء أحرص على أن تفر منهم فرارك من الأسد، حتى إن كان أقرب أقربائك أو أعز أحبابك. فاللئيم الجاهل الغبي ما هو إلا كالآفة لا تفتأ تؤذيك حتى تنهيك، ثم تتباكى بعد ذلك محاولة قلب الموازين لمصلحتها.
لست هنا لتقديم المواعظ والحكم، فأنا أعرف جيدا أن موروث النصائح ما هو إلا كلام ممنوع من الصرف، لن يكون له تأثير ميداني. ولكنني هنا لـ (1) محاولة كشف الستار قليلا عن ملامح الضحية والجلاد، (2) وتشجيع التفكير النقدي، وعدم تحويل العقل إلى إسفنجة لا تتقن غير امتصاص ما يقع عليها، (3) وتقديم مبادئ "الحب والسلام والوعي" التي باتت تعيش في مكان آخر، و"العدل والإنسانية" اللذين استقالا وتقاعدا في كوكب لم يكتشف بعد.