هل بالفعل لدينا مؤتمرات علمية؟

بعد شهرين من الآن يبدأ موسم المؤتمرات. المشاهد أن بعض هذه المؤتمرات أصبحت أقرب منها للمنتديات من أن تسمى مؤتمرات علمية "حقيقية". فالمؤتمرات العلمية لها شروطها من أجل أن تكسب مكانتها العلمية، ومن أجل أن تحدث أثرا فعليا. فمثلا، من أهم شروط المؤتمرات العلمية، وجود لجان علمية متخصصة في فحص وتقييم الأوراق العلمية المقدمة وفقا لآليات البحث العلمي المعروفة. ومن أهم معالم المؤتمرات العلمية المتميزة، أنها تضع قبل بداية أي مؤتمر إعلانا تدعو فيه المختصين إلى تقديم الأوراق العلمية مع وضع أهداف المؤتمر، كما تكون لها لجنة علمية تفرز وتقيم الأوراق العلمية المقدمة، ومن ثم يتم إعلان قبول الأبحاث المقدمة التي تم فرزها من قبل اللجنة العلمية المختصة "التي أيضا لها شروط علمية معروفة يتم في ضوئها اختيار أعضاء لجانها العلمية"، وبعد ذلك يتم إعلان قبول أو رفض هذه الأوراق وفقا لتلك الشروط العلمية. بعد كل هذه السلسلة الطويلة يتم إعلان برنامج المؤتمر وفقا لمحاوره والأوراق العلمية التي تم قبولها.
لا شك أن الآلية التي يمر بها الإعداد للمؤتمرات تتطلب جهدا ووقتا لتنفيذها، لكنها في الوقت نفسه أحد أهم عوامل قوة المؤتمرات. ونظرا إلى هذا الجهد العلمي المتطلب بذله من أجل إقامة أي مؤتمر علمي، فإن المختصين يحرصون على حضور المؤتمرات العلمية التي تلتزم بالمهنية، وكونها البيئة المناسبة للاطلاع على المستجدات العلمية ونتائج الأبحاث الجديدة في المجال. لذا، لا تجدهم يمانعون من دفع مبالغ مالية من أجل ضمان اطلاعهم على مستجدات الأبحاث في مجالاتهم. كما أن حضور المؤتمرات والندوات، خصوصا الصحية، أحد شروط تجديد الرخصة المهنية للممارس الصحي - سواء كان طبيبا، أو صيدليا، أو ممرضا، أو إخصائيا، أو غيره - التي يتم تصنيفها أنها جزء من ساعات التطوير المهني المستمر.
بهذه القيمة المعرفية، أصبحت المؤتمرات من أهم مصادر تغيير السياسات والأنظمة في الدول، كونها طرحت من خلالها أوراقا علمية قوية معرفيا، ما يحفز صانع القرار للاطلاع على توصياتها.
لكن - مع الأسف - مع كثرة المؤتمرات والندوات، أصبح بعضها يفتقد إلى وجود لجان علمية "حقيقية" متخصصة، فلم تعد بعض المؤتمرات تضع إعلانا لطلب تقديم الأوراق العلمية، ولا توجد آلية علمية محايدة مكتوبة تفرز في ضوئها الأوراق العلمية المقدمة إلى المؤتمر، إنما يتم تحديد المتحدثين والمواضيع المطروحة وفقا لآليات أقل ما يقال عنها إنها غير مهنية أو علمية. والمشكلة الكبرى، أنه مع ضعف بعض هذه المؤتمرات علميا، يتوقع بعض القائمين عليها أن تسمع توصياتهم من قبل صناع القرار، مع أن توصيات بعض المؤتمرات ليس لها ارتباط بالأوراق العلمية المقدمة في المؤتمر. الجميل أن كثيرا من صناع القرار لدينا، أصبح لديهم الوعي الكامل بتقييم المؤتمرات، وتقييم عملها. لذا، قبل إعلان توصيات أي مؤتمر، يتم النظر إلى مدى التزامه بالمنهجية العلمية الخاصة بالمؤتمرات.
البعض قد يكون لديه أهداف غير معلنة من إقامة المؤتمرات، فينظر - مثلا - إلى إقامة مؤتمر ما أنه وسيلة للكسب المادي وبناء علاقات شخصية، ونوع من "المغازلة" لبعض المسؤولين عبر بناء جسور للتواصل معهم بدلا من أن تكون أهداف المؤتمر المشاركة في تقديم المستجدات العلمية والدراسات الحديثة. حتى لا أتحامل كثيرا على مثل هذه المؤتمرات، فإن من حق الجميع تحقيق المكاسب التي يطمحون إليها، لكن في الوقت نفسه أتمنى تغيير مسمياتها من مؤتمرات إلى منتديات أو لقاءات أو تجمعات، أو أي مسمى يرضي غرور القائمين عليها ويحقق أهدافهم دون الإخلال بقيمة المؤتمرات العلمية ومتطلباتها.
من المؤسف أن قيمة المؤتمرات العلمية ضعفت لدينا، كونها أصبحت تقدم محاضرات لا تختلف عن المحاضرات التي نقدمها لطلبة الدراسات العليا، فكثير منها باتت تركز على شرح بعض المفاهيم والمصطلحات، وتفتقد إلى أدبيات تقديم الأوراق العلمية المبنية على وضوح الأهداف، والوسائل المستخدمة للوصول إلى أهداف البحث والنتائج والنقاش العلمي، ومن ثم التوصيات.
لا شك أن للمؤتمرات قيمتها العلمية، لكن من غير العدل التوقع من مسؤول مشغول في مهامه اليومية وليس لديه الوقت الكافي لعمل أبحاث رصينة، أن يشارك في تقديم ورقة علمية غير خاضعة للتقييم العلمي. لذا، من الأولى أن تطلب مشاركتهم بصفتهم رؤساء جلسات كنوع من التكريم والتقدير - بدلا من أن يطلب منهم تقديم أوراق علمية لها متطلباتها وشروطها العلمية.
لدينا - ولله الحمد - محاضن علمية قادرة على المشاركة في المؤتمرات العلمية، لكن - مع الأسف - لم يتم الاستفادة منها بالصورة الكاملة. فحسب موقع وزارة التعليم، لدينا 43 جامعة، منها 29 جامعة حكومية و14 جامعة أهلية، و29 كلية تعليم جامعي أهلية، خلاف جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ومعهد الإدارة، والكليات التقنية. لا شك أنه يتطلب من أعضاء هيئة التدريس في هذه الجامعات والكليات، المشاركة في الفعاليات العلمية والبحثية، بل إن من أهم المهام المتوقعة من عضو هيئة التدريس، إضافة إلى مشاركته في التدريس؛ القيام بالأبحاث والمشاركة المجتمعية. والمؤتمرات العلمية إحدى أهم الحواضن لتقديم الأبحاث العلمية.
قد لا نختلف أن لإقامة المؤتمرات أثرا إيجابيا، ليس من النواحي العلمية فقط، بل على مختلف الجوانب الأخرى، بما فيها الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فقد شهد قطاعا المعارض والمؤتمرات نموا بارزا وصل إلى 30 مليار ريـال سنويا، وإن كانت هذه القيمة يدخل فيها إقامة المؤتمرات العلمية وغير العلمية. وعلى مستوى الاهتمام الحكومي بالمؤتمرات، تم تحويل اللجنة الدائمة للمعارض والمؤتمرات إلى برنامج وطني باسم "البرنامج الوطني للمعارض والمؤتمرات".
لذا، من أجل المحافظة على قيمة المؤتمرات وزيادة روادها، يجب أن نحافظ على أصالتها وتميزها وجودتها حتى يشارك في حضورها ليس فقط المهتمون في مختلف الجوانب العلمية من السعودية، بل من خارجها أيضا، وتصبح مستقبلا لأحد أهم مصادر القوى الناعمة، التي تتميز بها السعودية على المستوى الدولي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي