حوكمة اقتصادية وعوائد عامة

الاقتصاد العالمي اليوم هو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار وإجراء البحوث المستمرة لدعم التطوير وزيادة مؤشرات النمو، وفي هذا يقول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: "إننا نعيش في زمن الابتكارات العلمية والتقنيات غير المسبوقة وآفاق نمو غير محدودة، ويمكن لهذه التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في حال تم استخدامها على النحو الأمثل أن تجنب العالم الكثير من المضار وتجلب للعالم الكثير من الفوائد الضخمة".
فالعالم يعيش اليوم عصر الثورة الصناعية الرابعة وكل يوم تقريبا نشهد تطوير وابتكار اختراعات تقنية في شتى مناحي الحياة، وأصبحت مسألة الذكاء الاصطناعي، وأنظمة الخبرة التي تسعى إلى محاكاة العقل البشري محل سباق دولي كبير وتمويل ضخم وقد اهتم عدد من الدول باستراتيجياتها في الذكاء الاصطناعي، وبدأت فعليا بضخ استثمارات تبلغ مليارات الدولارات لتطوير قدراتها في هذا المجال، ورغم أن الابتكار والبحث وتطوير العلوم والتقنية والابتكار قد لقي اهتماما في المملكة وكانت له مساحة واسعة من خطط التنمية والميزانيات المتعاقبة، وكانت تقر بنودا لتعزيز قدرات مؤسسات البحث العلمي ومراكز التقنية وتوسيعها، إلا أن المخرجات لم ترتق لمستوى تطلعات القيادة.
وقد أسهم الدعم الكبير الذي حظي به هذا القطاع المهم بنمو كبير في مؤسساته وجميع القطاعات، فتم إنشاء مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وإنشاء عدد كبير جدا من وحدات ومراكز البحث العملي في الجامعات السعودية وفي جميع مؤسسات التعليم العالي، إضافة إلى تطوير أنشطة رعاية الموهبة والابتكار. وبهذا الوضع توسعت اتجاهات البحث العلمي والتطوير حتى أصبح بعضها خارج احتياجات الاقتصاد والسوق، بل أحيانا خارج السباق العالمي، وبقيت بوصلة البحث والتطوير خارج نطاق الاحتياجات المطلوبة، بل أحيانا خارج السباق العالمي. 
وهذا التحدي الكبير يشبه إلى حد ما التحدي الذي واجهنا بشأن التحول من الاعتماد على النفط نحو الاقتصاد متعدد الموارد، فكما هو ملاحظ أن هناك ارتباطا بين قدراتنا البحثية وتوجيهها إلى الاتجاه الصحيح وبين قدراتنا على تحقيق تنوع اقتصادي، فالابتكار اليوم هو الذي يقود الاقتصاد العالمي، ولهذا فقد كان اهتمام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في غاية الوضوح بهذا الشأن وقد تم إطلاق الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، بهدف الوصول إلى أعلى 15 دولة في الذكاء الاصطناعي، وإلى أعلى عشر دول في البيانات المفتوحة، وبناء مورد مستدام للكفاءات لأكثر من 20 ألف مختص وخبير في البيانات والذكاء الاصطناعي، وجذب استثمارات في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي بما يعادل نحو 75 مليار ريال (نحو 20 مليار دولار)، وتحفيز ريادة الأعمال والإسهام في إيجاد أكثر من 300 شركة ناشئة في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي. 
إن هذا التحول الاستراتيجي الضخم يحتاج إلى حوكمة جيدة مصممة بشكل يضمن توجيه الدعم الضخم نحو تلك الأبحاث التي تسهم في صنع الاقتصاد المعرفي الذي يمنح مساحة واسعة للابتكار، فقد جربت المملكة نماذج خطط التنمية التي ترسم الخطوط العريضة للتوجهات الاستراتيجية لكنها تترك العمل الميداني للاجتهاد الخاص بكل جهة ولهذا تباينت الإنجازات وفقد البعض بوصلة العمل، ولأن السعودية تملك مسارا واضحا للابتكار وهذا يعني أن تكون مركزا للبحث العملي، فإن العودة للمسارات السابقة من ترك توجيه دفة البحث العلمي والتطوير دون حوكمة قد يؤخر الإنجازات عما هو مخطط لها، والأمير محمد بن سلمان رجل حزم وتنفيذ، لهذا تجد نماذج التوجيه والقيادة والمساءلة واضحة في جميع المشاريع الاستراتيجية الكبرى.
 ومن هنا نقرأ قرار مجلس الوزراء الأخير بتشكيل لجنة عليا للبحث والتطوير والابتكار برئاسة ولي العهد، فهي لجنة من لجان الحوكمة الاقتصادية المهمة جدا في هذه المرحلة وقد تم رسم كل التوجهات الاستراتيجية، ولزيادة العزم والثقة في تحقيق أعلى امتثال والتزام بمستهدفات رؤية 2030، فاللجنة ستكون الموجه الأعلى عند تحديد الأولويات البحثية للمستقبل، وتعزيز فرص التحول لاقتصاد المعرفة، وتمكين العلماء والباحثين للمنافسة عالميا. 
فالجهود البحثية في كل المؤسسات البحثية التابعة لكل الوزارات والهيئات ستكون مركزة في تحقيق مستهدفاتنا الاقتصادية، وهذا ما يجعل البحث العلمي ذا جدوى اقتصادية وعوائد عامة، وليست عوائد محدودة في الجهات والأشخاص المعنين به، كما ستسهم في رفع إنتاجية البحث العلمي من جميع المؤسسات نظرا للرقابة والمساءلة بشأن الموارد التي تم تخصيصها لهذا الجهد المتكامل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي