سر المسطرة
عندما كنت طالبا في قسم العمارة والتخطيط، قبل أن أغير تخصصي، درسني أستاذ بريطاني.
كان أثناء المحاضرات وخارجها يحمل مسطرة هندسية طويلة، يضعها بيننا وبينه، كلما هممنا للحديث معه.
كانت حاجزا يحول بيننا وبين الاقتراب منه.
فور أن نقترب منه يمدها باتجاهنا، فنتراجع للخلف، ونتحدث من ورائها.
عبرنا عن انزعاجنا من تصرفه، ولكنه لم يعبأ باحتجاجنا.
رفعنا شكوى إلى رئيس القسم، الذي وعدنا بأن ينظر في الأمر، ويعود إلينا. بيد أنه لم يعد!
كنا نبذل جهدا مضاعفا وهائلا في تحصيل المادة، ليس للحصول على درجة عالية، وإنما لتجاوز مسطرته التي أقضت مضاجعنا.
غادرت الجامعة، ثم غادرها هو لاحقا، والتقينا مصادفة بعد أكثر من عقد من الزمن، في لقاء نظمه في ليفربول في بريطانيا، أحد الأندية الطلابية، لأعضاء هيئة التدريس البريطانيين، الذين عملوا في الخليج.
فور أن شاهدته في اللقاء، اتجهت نحوه، وألقيت عليه التحية، وعرفته بنفسي.
تبادلنا الحديث، وسألته خلال حوارنا عن سر "المسطرة" التي كانت ترافقه، أينما ولى وجهه.
ضحك، ثم أجابني إجابة فاجأتني!
قال إنه كان خلال تلك الفترة يعاني التهابا شديدا في اللثة، يؤدي إلى صدور رائحة كريهة من فمه. فشعر أن أفضل طريقة لعدم مضايقة أحد، هي أن يضع مسافة بينه وبين الآخرين.
بغض النظر عن مدى مناسبة تصرفه وقتئذ أم لا، فالمسافة مع الآخرين خطوة وقائية مناسبة تساعد علاقاتنا وتسعدها.
لا أقصد المسافة المكانية، وإنما المسافة النفسية.
حاول ألا تقترب أكثر من اللازم من الآخرين.
ارسم مسطرة في خيالك تجعلك لا تتعدى الحدود مع أحد.
حافظ على هذه المسافة، لتحفظ هذه العلاقة وتحميها.
نخسر كثيرا من أحبابنا، لأننا لم نرسم الحدود والمسافات فيما بيننا.
تأكد أن هذه المسافة لا تبعدنا، بل تقربنا.