متطلبات الاستدامة .. وتنافسية الشركات
قبل الحديث عن أثر الاستدامة في تعزيز تنافسية الشركات، يجدر التعريف أولا بمعنى الاستدامة، والمدلولات التي تدور حول هذا المصطلح. الاستدامة في أبسط معانيها تشير إلى استمرارية الشيء والاحتفاظ به عند مستوى معين. أما كلمة الاستدامة بمعناها الأشمل فيقصد بها في الأغلب العمليات والممارسات التي من شأنها المحافظة على الموارد الطبيعية المتاحة وحماية البيئة المحيطة بها من التدهور، ما يمنع تراجع جودة الحياة للأجيال الحالية والمستقبلية. وفي الأغلب ما ترتبط دلالات الاستدامة بعناصر البيئة والاقتصاد والمجتمع، كما أن هنالك تقاربا متزايدا في الآونة الأخيرة بين مفاهيم الاستدامة من جهة، والابتكار أو التحول الرقمي من جهة أخرى.
تشكل التحديات العالمية الحديثة كالتغير المناخي، أو نقص الموارد الطبيعية أحد الدوافع الرئيسة لتبني ممارسات واستراتيجيات الاستدامة. أما في السياق الاقتصادي أو الاقتصاد الجزئي تحديدا، فإن عامل التكلفة والمحافظة على الميزة التنافسية يعدان من أهم الدوافع لتضمين ممارسات واستراتيجيات الاستدامة في الشركات. وقد كان مصطلح الاستدامة يطرق بشكل سطحي في بداية الألفية، ولكن مع ازدياد وطأة التأثيرات المناخية والبيئية، وارتفاع أسعار السلع والخدمات عالميا، واحتدام المنافسة بين الشركات، ارتفع الوعي بأهمية مفهوم الاستدامة وتطبيق ممارستها في عالم الأعمال، وأضحى يلقى رواجا في المنتديات والمحافل الدولية وفي وسائل الإعلام المختلفة.
مسألة أخرى لا تقل أهمية وهي ازدياد الوعي المجتمعي، خصوصا في المجتمعات الغربية، بموضوعات الاستدامة وتأثيرها المباشر في وفرة الموارد الطبيعية والبيئية المحيطة بها، وبالتالي جودة الحياة في المستقبل القريب أو البعيد. شكل هذا الهاجس باعثا لنشأة عديد من الشركات تتبنى أهدافا أو نماذج عمل تتجاوز مسألة الربح المادي "وإن كان ذلك مشروعا" إلى القيام بتبني قضية ذات معنى business cause، لتخدم المنطقة أو الشريحة التي تستهدفها. ويضيف جيل الألفية والجيل الذي بعده من الشباب واليافعين، الذين يشكلون النسبة الكبرى من السكان في العالم، سببا آخر لتبني الشركات مبادئ الاستدامة في أعمالها، لإيمان تلك الفئة العمرية أكثر من غيرهم بأهمية الاستدامة وضرورة توظيفها في ممارسات الأعمال والتجارة. كما أن عديدا من الشركات أصبحت تتبنى استراتيجيات الاستدامة أو توظفها في نماذج أعمالها، لأنها أصبحت عامل جذب لتوظيف الكفاءات وأصحاب المواهب من الجيل الحديث، إلى جانب الاحتفاظ بالموظفين لمدة أطول.
أحد الأمثلة على نشأة شركات حديثة تؤسس نماذج أعمالها لتتمحور حول أهداف مستدامة وتخدم قضية مجتمعية شركة بلوفيلد تكنولوجيز Bluefield Technologies، التي توظف تقنيات الأقمار الصناعية الصغيرة في رصد انبعاثات غاز الميثان بشكل لحظي، وتحليلها، ومن ثم إرسالها للجهات المهتمة بتلك المؤشرات والبيانات لمراقبة أي تغيير في مستويات أو انبعاثات غاز الميثان في الهواء. إضافة إلى تحقيق تلك الشركة الناشئة أرباحا من وراء تلك الخدمات، إلا أنها تسهم بشكل غير مباشر في الحد من انبعاثات الميثان الذي يعد أحد مسببات الاحتباس الحراري.
لكن ما الذي يحول بين كثير من الشركات اليوم وبين تحولها الاستراتيجي إلى توظيف الاستدامة في أعمالها وعملياتها؟ قد تكون ضبابية متطلبات الاستدامة أو عدم وضوح كيفية تنفيذها أحد الأسباب لدى مديري تلك الشركات في الإحجام عن هذا التحول. أيضا تظل هواجس ارتفاع تكاليف التشغيل أو تبعات التحول حال استخدام نماذج عمل أكثر استدامة سببا آخر في عدم إحراز تقدم في جهود الاستدامة. في رأيي، أن قضية الاستدامة مسألة وقت، وستكون ضرورة لاستمرارية الشركات وتعزيز تنافسيتها بين نظيراتها الحالية أو المستقبلية.