نمو حجم الحكومات في الاقتصادات المتقدمة «2 من 2»
رغم النموذج الاقتصادي المعتاد، يبدو أن الإنسان كائن اجتماعي. فنحن نتفاعل معا في مجموعات كالأسر وأماكن العمل والمجتمعات والأمم، ونعبأ بعدم المساواة. وهذه التفاعلات الاجتماعية هي نتاج تطورات عميقة ولا تتم بواسطة الأسواق. فقد تطور الإنسان ليصبح كائنا اجتماعيا يتمتع بقدرة فائقة على العمل والتعاون في مجموعات ويتأثر كثيرا في المقابل بكيفية توزيع ثمار العمل المشترك. وعلى المستوى الأعلى ترعى الدولة الحديثة الصغار والمرضى وكبار السن نظرا لأن المجتمعات البشرية الأولى التي اعتمدت على الصيد وجمع الثمار قامت برعايتهم بالفعل من خلال الدعم المجتمعي.
وفرت الدولة التعليم للجميع قديما، وكان ذلك بمنزلة اللبنة الأولى لدولة الرعاية في القرن الـ 19 في روسيا والولايات المتحدة. ويتفق الجميع تقريبا على أن القوة العاملة المتعلمة شرط للتنمية الاقتصادية على المدى الطويل. ويمكن توفير التعليم للجميع من خلال مزيج من التعليم الإلزامي والتمويل الحكومي. وهناك حاجة إلى التمويل الحكومي نظرا لأن الأسر منخفضة ومتوسطة الدخل لا تستطيع تحمل النفقات المرتفعة للتعليم عالي الجودة. ويتيح ذلك بدوره فرصة لأطفال الأسر المعوزة لتحقيق النجاح الاقتصادي. ويتضح من تجربة القروض الطلابية الباهظة والمدارس المستغلة الهادفة للربح أن نتائج الأسواق والدوافع الربحية دائما ما تكون أسوأ كثيرا.
وفي الاقتصادات المتقدمة، نجد أن تكلفة نظم الرعاية الصحية الحديثة أعلى من التعليم. وفي غياب التمويل الحكومي، سيتمكن الأثرياء وحدهم من تحمل نفقات الرعاية الصحية. لذلك فإن التأمين الصحي الشامل الممول في معظمه من خلال الحكومة لا يزال هو الحل الوحيد لتوفير رعاية صحية جيدة للجميع، وهو من الأهداف التي تحظى بتأييد كبير ويسهم باستمرار في زيادة الأعمار في الدول الأكثر ثراء.
وتشير دراسات كثيرة إلى أن الفرد لا يجيد الادخار لمرحلة التقاعد أو حتى الاحتفاظ بمبلغ زهيد لتعويض أي خسائر مؤقتة في الدخل. لذلك تنظم دولة الرعاية الادخار من خلال الضرائب وإعانات التقاعد أو البطالة. وهذا الحل الاجتماعي يسهم بلا شك في الحد بدرجة كبيرة من الفقر في المراحل العمرية المتقدمة أو خلال فترات البطالة، كما يحظى بتأييد واسع أيضا.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للمشورة بشأن السياسات الاقتصادية؟ يفترض علم الاقتصاد أن البشر كأفراد يجيدون حل مشكلات التعليم والتقاعد والتأمين الصحي، لكن الشواهد تشير إلى أن النجاح يتطلب حلا اجتماعيا من خلال دولة الرعاية. ويقوم علم الاقتصاد عادة على منطق معكوس: حيث يهتم بتأثير حجم دولة الرعاية على النمو، رغم أن نشأتها في منتصف القرن الـ 20 صاحبها نمو عادل وغير مسبوق في الدول الغربية، ويهتم كذلك بدور دولة الرعاية في الحد من الحافز على العمل لدى الفرد، في حين أن المجتمعات قررت طوعا خفض أعباء العمل عن كاهل الصغار وكبار السن من خلال توفير التعليم للجميع ومنافع التقاعد، والأفراد الذين فرض عليهم العمل بما يتجاوز طاقتهم من خلال لوائح العمل.
وفي الوقت الحالي، تشهد الاقتصادات سريعة النمو، مثل الصين والهند، زيادة مستمرة في حجم حكوماتها أيضا كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، لكنها لا تقترب بأي حال من الأحوال من المستويات المحققة في الاقتصادات المتقدمة، وإن صحت التحليلات الواردة في هذا المقال، يعني ذلك أن قطاعات كبيرة من سكان هذه الدول ستظل محرومة من الحصول على التعليم عالي الجودة والرعاية الصحية وإعانات الشيخوخة، ما سيحول دون تحقيق نمو اقتصادي واسع النطاق ورخاء اقتصادي شامل للجميع.
إن نمو دولة الرعاية يشكل معضلة في علم الاقتصاد الحديث لكنه نتاج تطورات عميقة.