عدو الثرثرة
روي في قصص السابقين عن حاكم دفع بثلاثة أشخاص إلى حبل المشنقة ظلما وعدوانا، وكان الأول رجل دين والثاني محاميا والثالث عالما فيزيائيا.
وعندما حل الوقت وحانت ساعة القصاص، بدأوا برجل الدين فسألوه إن كان يريد أن يقول كلمة الوداع، فقال إني بريء مما تتهمونني به، والله يعلم أني كذلك وأفوض أمري إلى الله، ولما هموا بقطع رقبته بالمقصلة، فإذا بها تقف قبل أن تنزل على رأس رجل الدين فأرجعوه للوراء، وقالوا لقد قال الله كلمته لن تعدم، وجاء دور المحامي فقالوا له قل كلمة أخيرة قبل أن تموت، فقال أنا لا أعرف الله كرجل الدين، لكن الله يعرفني حق المعرفة، واثق بعدالة السماء، وهموا أن يقطعوا رقبته، لكن المقصلة أيضا وقفت قبل أن تنزل على رقبته وأبت قطعها، فقالوا لقد قال الله كلمته في هذا، وحينما جاء دور الفيزيائي، قالوا له إن أردت أن تقول كلمة أخيرة فقلها، قال لهم: أنا لا أعرف الله مثل رجل الدين هذا، ولا أعرف العدالة مثل المحامي، لكني أعرف أن هناك عقدة في نهاية حبل المقصلة هي التي تمنعها من النزول، وعندما فحصوا المقصلة وجدوا عقدة تمنع المقصلة من قيامها بعملها فحلوا العقدة، ونزلت المقصلة على رقبة الفيزيائي فأعدمته.
ليس العبرة بما تعرف، بل بمتى تقول وكيف ولماذا، وليس كل ما يعلم يقال، فمن الذكاء أحيانا أن تكون غبيا.
وقد قيل: من كثر علمه قل كلامه، وفي هذا قول مشهور للصحابي الجليل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين قال: "إذا تم العقل نقص الكلام، بكثرة الصمت تكون الهيبة".
وقال الشاعر:
فلا تكثرن القول في غير وقته
وأدمن على الصمت المزين للعقل
وحين تكون الحياة ثمنا لكلمة، فإن ميزان العقل الراجح هو تقدير الحديث قبل إطلاقه، وتثمين الموقف ووضعه في الحسبان، وفي هذا يقول الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت المرء من عثرة الرجل
وليس كل الكلام منكرا، كما أن قلته مقبولة، فتقدير الموقف هو الفيصل وهو لمن أوتي الحكمة، ومن أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا، ومن هنا وجب القول: إن من يعرف أكثر يعتقد أقل، وعدوه الثرثار.