تفعيل الابتكار .. عبر 6 محاور

الابتكار معرفة متميزة، ويتجلى تميز هذه المعرفة في أنها تحمل قيمة تستطيع الإسهام في التنمية بشتى أشكالها، الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وعلى ذلك فالابتكار ليس مطلوبا لذاته، بل هو منشود كوسيلة لدفع مسيرة التنمية إلى الأمام. إنه الطاقة اللازمة لحركة التنمية، وقدرتها على الاستمرار والاستدامة، والاستجابة للتنافسية العالمية، وقطارها المتسارع الذي لا ينتظر أحدا. مصدر الابتكار هو عقل الإنسان، وهو ثروة طبيعية متجددة عبر الأجيال يمكن تفعيلها والاستفادة منها، عبر بناء بيئة محفزة لاستنباتها، ورعايتها، وإدارة شؤونها، والاستثمار في معطياتها. وغاية هذا المقال هي عرض ستة محاور لتفعيل الابتكار المنشود، ودعم دوره في التنمية، وفي تعزيز استدامتها.
تشمل محاور تفعيل الابتكار الستة المطروحة في هذا المقال: محور ثقافة المجتمع، ومحور التعليم، ومحور رعاية الموهوبين، ثم محور البحث العلمي، ومحور إدارة الابتكار، إضافة إلى محور جامع داعم يضم هذه المحاور، ساعيا إلى تكاملها، وإلى الإسهام في التنمية المطلوبة. وسنلقي بعض الضوء، فيما يلي، على كل من هذه المحاور.
إذا بدأنا بمحور ثقافة المجتمع، تبرز أمامنا مسألة "التفكير"، لأن التفكير هو منبع المعرفة الجديدة والمتجددة. ويرى كثيرون، بينهم خبير التفكير إدوارد دي بونو Edward de Bono، أن التفكير مهارة قابلة للاكتساب، كأي مهارة أخرى. ولا شك أن التفكير، ليس فقط وسيلة للإبداع والابتكار، بل للحكمة أيضا واتخاذ القرارات السليمة، وفي ذلك أهمية كبيرة في مختلف نشاطات الإنسان. فالحكمة تسهل على الإنسان اكتساب الوعي بأهمية الابتكار، وتحفيز الذات والآخرين بشأنه، وإطلاق مبادرات للتعاون معهم، وربما التنافس الإيجابي مع معطياتهم، بعيدا أي عداء، واقترابا من كل فهم وتفاهم.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المبتكرات التي تحمل قيمة، لا تأتي بالضرورة من بحوث علمية تستند إلى معرفة متقدمة، بل ربما تأتي من أفكار تستند إلى معرفة بسيطة. وعلى هذا الأساس، فإن كل فرد مفكر في المجتمع، بصرف النظر عن مستواه المعرفي، يمكن أن يكون مبتكرا يقدم معرفة جديدة تحمل قيمة.
وننتقل إلى محور التعليم، لنلجأ في هذا المجال إلى مضامين برنامج تنمية القدرات البشرية، الذي يسعى إلى تعليم يواكب طموحاته التي تتطلع نحو إعداد مواطن منافس عالميا. ويهتم البرنامج، في السبيل إلى ذلك، بتطوير أساس تعليمي مناسب يفعل إمكانات الإنسان، مع تقديم تعليم تخصصي يستجيب لسوق العمل، إضافة إلى إتاحة فرص التعلم مدى الحياة، استجابة للتطور المعرفي المتسارع الذي يشهده هذا العصر. ويبرز البرنامج صفات إنسانية مهمة، يطلب توفير المعطيات المناسبة التي تمكن الجميع من اكتسابها. وتتوافق هذه الصفات مع متطلبات محور ثقافة الابتكار، سابق الذكر، حيث تشمل التفكير، والعقلية المرنة، والعزيمة والمثابرة، فضلا عن التوجه نحو الابتكار وإدراك متطلباته.
ونأتي إلى محور رعاية الموهوبين، فالموهوبون ثروة طبيعية يجب الاستثمار فيها، لأنها قابلة للنمو وتقديم الثمرات التي تستطيع الإسهام في التنمية المطلوبة. ولا تنحصر الموهبة بمجال واحد من مجالات الحياة، بل هي كالتنمية المطلوبة، تغطي مختلف هذه المجالات. وإذا كانت مواهب مجالات "العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM" أكثر قدرة على الإسهام في التنمية الاقتصادية المنشودة، فإن المواهب في المجالات الأخرى قادرة على الإسهام في التنمية الاجتماعية والإنسانية التي يحتاج إليها الجميع.
ونمضي قدما نحو محور البحث العلمي الذي يعطي معارف متقدمة في شتى المجالات. ولهذا البحث ثلاثة مستويات رئيسة. مستوى يتطلع إلى المعرفة من أجل المعرفة، لأن في ذلك توسيعا لدائرة معارف الإنسان واكتشافاته، قد يستفيد منها في يوم من الأيام. ثم مستوى يهتم بالمعرفة من أجل الفائدة، ويقدم معرفة تحمل قيمة قابلة للتطبيق. ومستوى ثالث يسعى إلى تطبيق المعرفة وإعداد معطياتها للمجتمع، أو للسوق، وجني الفوائد، والإسهام في التنمية المنشودة. وعلى هذا الأساس، لا بد من تكامل المستويات الثلاثة للحصول على الابتكار المنشود والاستفادة منه. والمشكلة أن هذا التكامل كثيرا ما يكون متعثرا، خصوصا نتيجة لغياب المستوى الثالث، أو انفصاله معرفيا عن المستويين الأولين. وتعرف هذه المشكلة عادة "بوادي موت الابتكار Death Valley". وعلى ذلك، فإن التعاون البحثي من أجل تكامل المستويات الثلاثة، ضرورة حيوية، لتفعيل الابتكار وتعزيز دوره التنموي المطلوب.
وننتقل إلى محور إدارة الابتكار في المؤسسات، فهذه الإدارة باتت مطلوبة، في جميع المؤسسات، من أجل تطوير معطياتها وتجديدها، وتمكينها من الاستمرار في عملها، والتميز فيه أمام منافسة الآخرين. ولعلنا نلاحظ هنا أن المؤسسات المعنية بكثير من المنتجات التي نستخدمها، مثل أجهزة الجوال، تسعى باستمرار، وبين عام وآخر إلى إضافة معطيات جديدة مبتكرة لمنتجاتها تشجع الناس في السوق على شرائها من أجل الاستفادة منها. ووضعت "منظمة المعايير الدولية ISO" توصيات تختص بحوكمة إدارة الابتكار في المؤسسات، لمساعدة الجميع على الابتكار. وتشمل هذه التوصيات نواحي تشجع التعاون على الابتكار، بما في ذلك التعاون بين باحثي الجامعات، والعاملين على الابتكار في المؤسسات. وبالطبع تبقى القدرة على المنافسة، وحسن إدارة المتطلبات عاملا مهما للنجاح والتميز.
ونصل إلى المحور السادس، وهو المحور الجامع الداعم لجميع المحاور السابقة. يقضي هذا المحور بالتخطيط المشترك للابتكار، والاهتمام في ذلك بشتى المجالات، دون نسيان الأولويات الأقرب إلى القدرة الذاتية على التنفيذ، والأعلى فرصة في استقبال السوق لها، سواء محليا أو دوليا. ولأن تنمية المجتمع تأتي في مصلحة الجميع، فلا بد من مشاركة الجميع، أفرادا ومؤسسات من مختلف القطاعات. ولا بد من تكامل النشاطات بين الجهات. فالجهات الأقدر على الابتكار وتقديم المعرفة المفيدة القابلة للتطبيق، تحتاج إلى الجهات الأقدر على الاستثمار، وتقديم رأس المال الجريء الذي يمكن الابتكار من الظهور على أرض الواقع، والانتشار في السوق.
يدعونا تفعيل الابتكار من أجل التنمية إلى ثقافة جديدة، وتعليم أكثر تطورا، ورعاية أوسع للموهوبين، وتكامل في مستويات البحث العلمي، وإدارة متطورة للابتكار في المؤسسات، وإطار جامع داعم لكل ذلك، وربما أكثر من ذلك أيضا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي