التعليم من أجل الابتكار والتعلم المستقل «3 من 3»
هذا هو المقال الثالث والأخير في طرح المعطيات الرئيسة لكتاب أجنبي، مترجم إلى العربية، أصدرته مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة"، ويحمل عنوان المقال ذاته. أبرز المقال الأول مفاهيم التعلم والتعليم والابتكار، وبين الحاجة إلى تطوير التعليم باتجاه تعزيز القدرة على الابتكار، وعرض المتطلبات الأولية للتطوير المأمول، كما ألقى الضوء على الثورات التعليمية الثلاث التي شهدها العالم عبر العصور.
تضمن المقال الثاني طرح العوامل المهمة المؤثرة في بيئة التعلم، وعرض المتطلبات الرئيسة لإصلاح التعليم. وناقش المقال أيضا، مقارنة تستند إلى ستة مجالات، تبين الخصائص المرتبطة بالتعليم التقليدي من جهة، في مواجهة الخصائص المتعلقة بالتعليم الابتكاري من جهة أخرى. ويأتي هذا المقال الثالث، ليستكمل المعطيات الرئيسة للكتاب. ويشمل ذلك توجهات التعليم المطلوبة نحو الابتكار، ومسألة التعليم المستقل. كما يتضمن أيضا مثالين مهمين حول الخبرات السابقة، أحدهما من إنجلترا حول التعليم المستقل، والثاني من البرازيل حول التعليم عبر الإنترنت.
إذا بدأنا بتوجهات التعليم المطلوبة نحو الابتكار، نجد أن في الكتاب تسعة توجهات رئيسة. يرتبط التوجه الأول بالقوانين والعادات، ويقضي بالسعي إلى الحد منها ومن الأساليب القائمة في التعليم من أجل استكشاف بدائل أفضل. أما التوجه الثاني فيدعو إلى قبول مبدأ التجربة والخطأ، والاستعداد لمواجهة الفشل في إطار إجراء التجارب. ويهتم التوجه الثالث بإعادة النظر في الوضع القائم والعمل على وضع تصور جديد للتعليم. ثم يرى التوجه الرابع الحاجة إلى الخروج من الصندوق بمعنى البحث فيما وراء الحدود المعرفية والإدارية القائمة في التعليم. ويقضي الخامس بتوسيع دائرة الاستيعاب بمعنى فهم الوضع الراهن، واستقراء الماضي والنظر إلى المستقبل.
يدعو التوجه السادس للتعليم نحو الابتكار إلى إطلاق العنان للخيال المبدع والخروج بأفكار غير مسبوقة، والسعي إلى فهم عوامل تأثيرها على أرض الواقع من أجل الاستفادة منها. ويركز السابع على حل المشكلات، ومراعاة الحاجة إلى تعدد حقول المعرفة في حل المشكلات. ويرى الثامن ضرورة تحديد الوظائف الجديدة اللازمة، وبيان أهميتها في تحقيق المتطلبات. ويهتم التوجه التاسع، والأخير، بالعمل على تطبيق الأفكار الواعدة على أرض الواقع، والسعي إلى الاستفادة منها.
وننتقل إلى طرح موضوع التعلم المستقل الذي يمثل توجها مهما نحو الابتكار. ويرتبط جوهر هذا التعلم بالتفكير من أجل الاستيعاب الذاتي للمعلومة التي تحمل معرفة. وهو يدخل، في هذا الإطار، ضمن جانب التفكير في تعريف أينشتاين Einstein للتعليم، حيث يقول "ليس التعليم هو تعلم الحقائق (فقط)، بل هو التدريب على التفكير (أيضا)".
يشمل التعلم المستقل ثلاث مزايا رئيسة ترتبط بحقائق على أرض الواقع، كما يتضمن ثلاثة متطلبات مهمة أيضا. تتمثل أولى المزايا بحقيقة أن الطالب في هذا التعلم يحصل على المعرفة بجهده الخاص. أما المزية الثانية، فتأتي من حقيقة أخرى هي أن هذا التعلم يمنح الطالب حرية أكبر في تحديد أهدافه. وتضيف المزية الثالثة إلى ما سبق، حقيقة أخرى هي أن هذا التعلم يرتقي بقدرة الطالب على الاستفسار والتقييم، ويتيح له فرصة التعلم وإثراء إمكاناته المعرفية.
وننتقل إلى المتطلبات الثلاثة للتعلم المستقل، لنجد أنها تتضمن الحاجة إلى المساعدة من مشرف مسؤول يقدم المشورة المناسبة، وربما من عدد آخر من المدرسين تبعا للموضوع المطروح. وتشمل هذه المتطلبات أيضا الاستعانة بالتقنية والعالم السيبراني وما يقدمه من ثروة واسعة من المعلومات. وتبرز، بعد ذلك أيضا، مسألة التعاون مع الآخرين والشراكة في المعرفة والخبرة، كمتطلب مهم ينبغي أخذه في الحسبان.
قدم الكتاب، عبر الأمثلة العديدة التي قام بعرضها، مثالا مهما حول مقرر دراسي، يستند إلى التعلم المستقل، ويحمل اسم "منظور العالم". يتبع المقرر مدرسة "رجبي Rugby"، ويعطى لطلبة المرحلة الثانوية على مدى عام أو عامين، ومدرسة رجبي هي إحدى أعرق المدارس الإنجليزية، حيث أسست 1567. يشمل المقرر قيام الطالب باستقصاء مستقل، يرتكز إلى قواعد البحث العلمي، في موضوع مفيد يتم التخطيط له، وتقديم خطته كمقترح، يجري العمل على تنفيذه، بعد إقراره، خلال الفترة المقرر. يهتم المقرر بالمهارات التحليلية، ومهارات التفكير، واستخدام مصادر المعلومات، والحوار والشراكة المعرفية، فضلا أيضا عن تبني الأخلاق الحسنة في تنفيذ متطلبات العمل.
يتمتع عمل الطالب بالأولوية، مع التشجيع على الشراكة والعمال الجماعي، حيث يستطيع الطالب ليس فقط اكتساب المعرفة في الموضوع المطروح، بل الإبداع والابتكار فيه أيضا. ويقتصر دور المحاضرين في هذا المقرر على تمكين الطلاب من التعلم المستقل، وتقديم النصائح لهم عند الحاجة، وتشجيعهم على الشغف، والتوجه نحو مزيد من التعلم. ويحتاج النجاح في هذا المقرر إلى تقديم تقرير بحثي عنه، لا يختلف، في هيكله العام، عن تقارير رسائل الدراسات العليا في الجامعات، مع اختلاف مستوى العمق والنضج المعرفي. ولا شك أن للمقرر فائدة كبيرة للناشئة من طلبة المرحلة الثانوية، لأنه يبني فيهم عقلية البحث والتفكير بعيدا عن التلقين.
أعطى الكتاب مثالا آخر هو ابتكار تعليمي مهم يستهدف نشر التعليم في البرازيل، ويستخدم في سبيل ذلك وسيلتين مهمتين هما ترجمة مصادر تعليمية مهمة إلى اللغة البرازيلية، وإتاحتها لتعليم الناس مجانا عبر الإنترنت. وشملت المصادر التعليمية أهم الجامعات مثل هارفارد وبيركلي، وستانفورد. ويعرف هذا العمل بالاسم "فيدوكا للتعليم عبر الإنترنت".
وهكذا نصل إلى ختام المقال الثالث والأخير حول كتاب "التعليم من أجل الابتكار والتعلم المستقل". إنه كتاب يتوجه نحو المستقبل، وهو ينظر في الوقت ذاته إلى الماضي حيث الخبرة، وإلى الحاضر حيث قاعدة الانطلاق. وهكذا يتكامل المشهد، مؤكدا حقيقة أن الابتكار لم يعد ترفا بل ضرورة لأنه محرك التنمية، ولا بد للتعليم من إدراك هذه الحقيقة والاستجابة لها. ويستطيع القارئ التعمق أكثر في مضامين الكتاب عبر موقعه الإلكتروني المتاح للجميع.