ركائز الأمن الاقتصادي «4 من 4»
يتضح من هذه الاعتبارات أن الدور الأساسي للسياسات يكمن في إتاحة الإطار الاقتصادي اللازم لازدهار سلاسل الإنتاج الصلبة. ومن الجوانب المهمة لهذا الدور الدفاع عن النظام التجاري متعدد الأطراف الذي يضمن أن تظل الحواجز التجارية منخفضة وواضحة وغير تمييزية. ويجدر بنا أن نتذكر أن النظام التجاري متعدد الأطراف هو أحد إنجازات المجتمع الدولي التاريخية وليس نتاجا طبيعيا للسياسات التجارية الدولية. فقد أنشئ هذا النظام في لحظة حاسمة عقب الحرب العالمية الثانية بعد ثلاثة عقود كارثية شهدت تراجع العولمة.
وطبيعة النظام التجاري متعدد الأطراف باعتباره نظاما قائما على القواعد من العوامل المهمة للغاية لأمن سلاسل الإمداد. فالنظام لا يحد من مخاطر انقطاعات سلاسل الإمداد الناجمة عن السياسات فحسب، بل تزداد معه أيضا احتمالية استمرار الانفتاح السوقي عندما تكون هناك حاجة ماسة إلى توافر مصادر بديلة للإمداد. وتغيب هذه المزايا عن النظام التجاري القائم على القوى الذي يتيح للدول حرية تعديل السياسات التجارية حسبما يتراءى لها.
وهناك عديد من الدراسات حول أثر عدم اليقين بشأن السياسات التجارية في تقويض التدفقات التجارية. فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة Handley (2014)، إلى أن تراجع التعريفة الجمركية المفروضة يزيد من التدفقات التجارية حتى إن ظلت التعريفة المطبقة ثابتة. والسبب في ذلك أن تراجع التعريفة المفروضة يحد من عدم اليقين بشأن السياسات التجارية من خلال تضييق نطاق التغير المحتمل في التعريفة المطبقة. وأحيانا ما تطبق الدول تعريفات أقل من التعريفة المفروضة بموجب التزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية، ما تنشأ عنه فروق بين التعريفة الملزمة والتعريفة المطبقة.
وبوجه أعم، يترتب على ذلك ضرورة الحفاظ على مصداقية النظام التجاري متعدد الأطراف. فالأهمية لا تكمن في السياسات التي تلتزم بها الدول فحسب، بل في مدى المصداقية المعتقدة لهذه الالتزامات. ويعني ذلك أن أي انتهاكات لقواعد منظمة التجارة العالمية تنشأ عنها أضرار جانبية حادة تؤدي إلى تقويض النظام التجاري متعدد الأطراف ككل. والحفاظ على مصداقية النظام التجاري متعدد الأطراف يفرض على منظمة التجارة العالمية تحديا مماثلا لما تواجهه البنوك المركزية من تحد في تثبيت ركائز التوقعات التضخمية.
وجميع ما سبق لا يعني أن الإطار الاقتصادي لعمل التجارة العالمية يستحيل تحسينه. فإذا كان الهدف هو تعزيز صلابة سلاسل الإمداد العالمية، فمن الطبيعي الاسترشاد بمبدأ "إعادة صياغة العولمة"، كما تسميه منظمة التجارة العالمية. فالفكرة هي العمل تجاه تحقيق عولمة أكثر شمولا، بحيث تتيح لمجموعة أكبر من الدول المشاركة في سلاسل القيمة العالمية.