المهارات الإدراكية والتفكير المبني على المنهجية

يبرز موضوع المهارات الإدراكية في كثير من الدراسات المستقبلية والخطط التعليمية، نظرا إلى أهميته في الإبداع والابتكار، وتميز ذكاء الإنسان فيها عن ذكاء الآلة. وعرف تقرير "مستقبل الوظائف"، الصادر عن "المنتدى الاقتصادي الدولي" هذه المهارات، قائلا إنها تشمل مهارات التفكير التحليلي، والتفكير النقدي، والتفكير المعتمد على منهجية النظم، كما تتضمن مهارات تعدد اللغات، ومهارات القراءة والكتابة والرياضيات.
لعلنا نستطيع، بناء على هذا التعريف، النظر إلى طبيعة المهارات من جانبين رئيسين: جانب إجرائي يختص بشؤون التفكير والإبداع والابتكار والعطاء المعرفي. وجانب معلوماتي يهتم بمهارات اكتساب الإمكانات المعرفية اللازمة للتواصل مع أبناء الأمم المختلفة. ولا شك أن هناك تكاملا بين الجانبين، فاكتساب مهارات الجانب المعلوماتي يعتمد على مهارات التفكير في استيعاب المعلومات والتعرف على مضامينها. كما أن الحصول على مهارات التفكير يحتاج إلى توافر المعلومات والتعامل معها.
وسنناقش في هذا المقال موضوع التفكير بشكل عام، مع التركيز على التفكير المبني على منهجية النظم.
تقول نظرة تاريخية إلى التفكير في عصر تميز الحضارة اليونانية، إن "سقراط" الذي عاش في فترة المئوية الخامسة قبل الميلاد اعتمد تحفيز التفكير عبر طرح التساؤلات، والحوار بشأنها. ثم أقدم "أرسطو"، الذي عاش في القرن الذي يليه، على صياغة المنطق، عبر توخيه الحقائق من أجل الوصول إلى نتائج. وكان لـ"أفلاطون"، تلميذ سقراط وأستاذ أرسطو، دور في طرح التساؤل "ما هي المعرفة؟". وأفرز هذا التساؤل، عبر الزمن، إجابات قادت إلى بروز "نظرية المعرفة" التي ترى أن المعرفة تأتي عبر التجربة العملية وظهور النتائج على أرض الواقع، أو عبر التفكير والمحاكمة الذهنية الموضوعية، أو ربما عبر هذين النشاطين معا. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم ذكر التفكير بصياغات مختلفة، شملت "يتفكرون، وتتفكرون، ويتفكروا، وتتفكروا، وفكر"، 18 مرة.
هناك في مهارات التفكير، التفكير التحليلي الذي يسعى إلى تحليل المعلومات والأفكار، واستخلاص نتائج منها، وطرح حلول، مسببة بالأدلة، للمشكلات المطروحة. ثم هناك التفكير النقدي الذي يستخدم تجميع المعلومات والأفكار، وتحليلها، ومقارنتها، واستخلاص نتائج تقود إلى وجهة أو وجهات نظر، ربما تختلف أو تتفق مع معطيات قائمة، لتقدم بشأنها نقدا موضوعيا سلبيا أو إيجابيا معززا بالسببية. وهناك أيضا التفكير الإبداعي الذي يسعى إلى تحفيز الخيال على الانطلاق خارج الحدود التقليدية للمسألة المطروحة، وإيجاد أفكار جديدة ومفيدة بشأنها. وهناك بعد ذلك التفكير المبني على منهجية النظم، الذي يتبنى بنية النظم في هيكلة التفكير وتوجيهه. ولعلنا نلقي في التالي نظرة على البنية العامة للنظم تمهيدا لبيان مضامين هذا التفكير.
تشمل بنية أي نظام "مكونات" تتضمن عاملين من البشر، وأدوات يستخدمونها من أجل القيام "بنشاطات" مطلوبة، ضمن "بيئة عمل داخلية". تقوم هذه النشاطات بتنفيذ وظائف محددة، تستند إلى معلومات متاحة، وتسعى إلى تحقيق "أهداف منشودة"، عبر "توجهات استراتيجية"، تأخذ في الحسبان خصائص "البيئة الخارجية" المحيطة بالنظام، والمؤثرة في "مداخله"، والمتأثرة "بمخارجه".
على أساس هذه البنية، يقضي التفكير المبني على منهجية النظم بهيكلة المسألة المطروحة وتحديد ملامحها كنظام، بما يشمل التعريف بأهدافها وتوجهاتها، ومكوناتها، ووظائفها ونشاطاتها، ومتطلبات كل من بيئة عملها الداخلية، والبيئة الخارجية من حولها، إضافة إلى ما يرتبط بها من مدخلات ومخرجات، وربما تعاون ومنافسات. وتفيد هذه الهيكلة في التأسيس المعرفي للتفكير، وتوجيهه نحو متطلبات تحقيق الأهداف.
هكذا نجد أن التفكير المبني على منهجية النظم يؤسس لإجراءات التفكير بتوفير المعلومات المطلوبة، وبيان التوجهات والأهداف المنشودة، وتوصيف كل من الإمكانات المتاحة والبيئة المحيطة. ويسمح هذا التفكير بالاستعانة بمهارات التفكير التحليلي، ومهارات التفكير النقدي، إضافة إلى مهارات تفكير مساعدة أخرى، مثل مهارة "القبعات الست"، ومهارة "سوات". وفيما يلي تعريف بكل منهما.
تقضي مهارة القبعات الست بالتفكير على ستة محاور. أولها محور القبعة البيضاء الذي يقضي بجمع الحقائق حول المسألة المطروحة. ثم محور القبعة الصفراء الذي يركز على الجوانب الإيجابية فيها، ومحور القبعة السوداء الذي ينظر في الجوانب السلبية. ويضاف إلى ذلك محور القبعة الحمراء الخاص بتحديد المشاعر تجاهها، ومحور القبعة الخضراء الذي يبحث في جوانب الإبداع بشأنها، وصولا إلى محور القبعة الزرقاء الذي يجمل كل ما سبق، ويعمل على تحديد ما يلزم تجاه المسألة المطروحة.
ننتقل إلى مهارة "سوات" التي تهتم بالتفكير من أجل تقييم واقع مسألة مطروحة والتعرف على خصائص هذا الواقع، من أجل إضاءة طريق المستقبل بشأنها. وتهتم هذه المهارة بتحديد مكامن القوة التي تتمتع هذه المسألة بها، إضافة إلى تحديد مواطن الضعف فيها، والاهتمام بالمخاطر التي يمكن أن تواجهها، وكذلك الفرص التي تستطيع الاستفادة منها.
لعلنا نختم المقال بملاحظات ثلاث حول ما سبق. تهتم الملاحظة الأولى بالزمن والمهارات والجهود اللازمة للتفكير، فهذه بلا شك تعتمد على المسألة المطروحة. فالتفكير يمكن أن يكون تلقائيا وسريعا في بعض المسائل، مثل حالات القرارات السريعة المطلوبة أثناء قيادة السيارة، كما أنه يمكن أن يكون بطيئا وطويل الأمد، كما في حالات الدراسات المستقبلية، حيث يمكن مشاركة أكثر شخص في المسؤولية عن التفكير، تبعا للزوايا المحيطة بهذه الدراسات، على أن تتجمع الجهود في وضع النتائج النهائية.
نأتي إلى الملاحظة الثانية، وتختص بحقيقة أن نتائج أي تفكير ترتبط بالمعلومات والحقائق المتاحة حول المسألة المطروحة من جهة، كما تتعلق بالتوجهات والأهداف التي تنشدها المسألة من ناحية أخرى. ولعلنا نعود إلى المزيد حول هذا الموضوع في مقال مقبل بمشيئة الله.
نصل إلى الملاحظة الثالثة التي ترتبط بحقيقة أن التفكير كمهارة يحتاج إلى تدريب وممارسة في مختلف مجالات الحياة. والأمل المنشود هو أن تحظى مهارات التفكير باهتمام التعليم، في شتى مراحله، لكي تتعزز جاهزية الناشئة لمتطلبات المستقبل، خصوصا في بيئة الذكاء الاصطناعي الذي بات ضيفا مهما على موائد المعرفة، والمهارات، والنشاطات المختلفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي