المثرثرون في المجالس
فلان ما شاء الله عليه ماسك المجلس، عبارة نسمعها وتتكرر خصوصا بعد المناسبات والولائم الكبيرة والصغيرة وتدل على أن شخصا ما يقود دفة الحوار داخل المجلس بينما يستمع إليه الناس بإنصات وتهبط الأعناق وترتفع إلى ما يقوله هذا الشخص المفوه والخطيب المسمع، وتأتي على شكل خطبة ارتجالية أو قصة مروية أو حكاية شعبية أو غيرها من الأحاديث التي تملأ المجلس وتوجهه نحو هذا الشخص دون غيره.
في الوهلة الأولى فإن هذه العبارة تأتي في سياق المدح إلا أنه مدح يميل إلى الذم، فقد تعكس أنه امرئ ثرثار لا يدع للناس فرصة مشاركتهم الحديث ولا يسمح بالمقاطعة ولا هم له إلا أن يكمل ثرثرته غير آبه بالحضور، فهو لا يكاد يتوقف ويريح الأعناق من الالتفات إليه، نظرا لأن بعضهم منحه الله ملكة الخطابة وجهارة الصوت، لكنه يسرف في الحديث بما يخل بالمقام ويملل الحضور، ولا سيما وإن كانت مناسبة لا تحتمل الخطب الرنانة والصراخ.
نعم تصف العبارة أعلاه أشخاصا ربما سلبوا عقول الجالسين بجميل عباراتهم وحسن أسلوبهم وبراعة أحاديثهم الذي يقصر بلا خلل ويكثف المعنى بلا إطناب ويوجز وينجز ويختصر ما يقول في كليمات مبهرة قصيرة المبنى عميقة المعنى، وفي المقابل هناك غثيث الطرح سطحي العبارة سامج المعنى لا شأن له إلا الثرثرة لملأ فراغ في نفسه يظن أنه يسده.
الإشكالية ليست في الثرثرة أو في المثرثر فهو معروف ومكشوف وظاهر ويمكن التعامل معه بما تقتضيه الحال، لكن الإشكالية الكبيرة حينما يتحول الخطاب إلى معركة وتجر الكلمات غير المحسوبة إلى نتائج وخيمة، خصوصا إذا تحولت إلى خصومات حوارية وجدليات لا تنتهي وتفضي إلى مشاحنات لا طائل من ورائها، بل تنتج مغالطات كلامية وأدلة هلامية واستحضار إلى ما يدعو للشجار والاستدلال بما يشحن الآخرين، ولا يسلم المثرثر في الغالب من الوقوع في الزلل والانزلاق في الخطأ، فمن كثر حديثه كثر خطؤه كما يقال.
هذه النهايات لا يتمناها أحد، وكثيرا ما تتحول مجالس الفرح إلى نزاعات وفزعات تجر للمهالك والمعارك بسبب كلمة لم يحسب لها حساب، والمتأمل في بعض المثرثرين الذين يقودون المجالس بالإكراه يراهم يخلطون الحابل بالنابل، ويوردون ما لا يورد، يقتبسون فيما لا محل له، ويستدلون على صدق دعواهم بدليل غير صحيح أو غير وارد أو غير مقيس.