اضطراب مؤشرات التجارة العالمية
نتج عن الحرب العالمية الثانية تسيد الولايات المتحدة للمشهد الدولي، ما مكنها من صياغة السياسات العالمية إلى حد كبير، خصوصا في المجالات الاقتصادية. وقاد التفوق الاقتصادي الأمريكي بعد الحرب إلى تبني الولايات المتحدة سياسات الانفتاح التجاري والمالي وإنشاء المؤسسات الداعمة لها، التي من أبرزها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارية العالمية "الجات سابقا". وضغطت الولايات المتحدة على دول العالم للدخول في جولات مفاوضات متعددة الأطراف لتحرير التجارة العالمية وخفض الحواجز الجمركية وغير الجمركية. وكان الهدف زيادة مستويات التبادل التجاري العالمي في السلع والمنتجات. تدعم النظريات الاقتصادية مبدأ تحرير التجارة العالمية، حيث يقوي الانفتاح على العالم المنافسة، وتخصص الدول في قطاعات معينة، ما يرفع كفاءة استخدام الموارد ويحفز النمو. وقد جرى لفترات طويلة استثناء بعض القطاعات التي تتمتع فيها الدول النامية بميزات اقتصادية، أهمها: السلع والمنتجات الزراعية والملابس والمنسوجات وعدد كبير من المواد الأولية.
تم في بداية تسعينيات القرن الماضي الاتفاق على تحرير التجارة في جزء كبير من القطاعات التي تتميز فيها الدول النامية بعد عشرات الأعوام من المفاوضات. جاء هذا التحرير مقابل تحرير التجارة في قطاعات الخدمات والاستثمار وحماية حقوق الملكية التي تتميز فيها الدول المتقدمة، ما حفز تجارة الخدمات ورفع تدفق الاستثمارات وانتشرت التقنية وسلاسل الإنتاج عبر العالم. ودعمت تلك التطورات العولمة وسرعت نمو التجارة العالمية في السلع والمنتجات والخدمات والاستثمارات.
بعد أعوام عدة بدأت تظهر الآثار الجانبية للعولمة التي من بينها هجرة صناعات معينة من الدول المتقدمة إلى آسيا. واستفادت الدول الآسيوية بشكل كبير من العولمة وتدفق الاستثمارات وانتشار الصناعات والتقنية ونمت صادراتها واقتصاداتها بمعدلات مرتفعة، وبدأت تنافس الدول الغربية في المجالات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. وارتفعت في الأعوام الأخيرة مخاوف الدول الغربية من تعاظم القوى الآسيوية واندفعت لفرض قيود متزايدة على التجارة والاستثمار وانتقال التقنية. نتيجة لذلك خفتت أخيرا دعوات العولمة وارتفعت مطالب الحماية والأمن الوطني. وازدادت المخاوف الغربية مع ظهور التوترات في شرق المحيط الهادي، وتعاظمت بعد الحرب الأوكرانية. وقادت تلك الحرب إلى زيادة القيود على التجارة العالمية، وبدأت بوضوح تبرز تشكيلات ومحاور تجارية حول العالم تدعم انشطار التجارة بين المحاور التجارية، وازداد اضطراب إمدادات السلع والمنتجات، وارتفعت توجهات خفض الاعتماد على سلاسل الإنتاج المنتشرة كونيا.
قاد اضطراب التجارة العالمية في الفترة الأخيرة إلى تباطؤ نموها وإعادة تشكيل طرق التجارة بين المحاور الاقتصادية. ترجح معظم المصادر أن استمرار التوجهات التجارية الحالية نحو التشرذم التجاري ستقود إلى خسائر كبيرة للاقتصاد العالمي. وتتوقع منظمة التجارة العالمية أن انقسام العالم إلى كتلتين رئيستين سيؤدي إلى خسارة 5 في المائة من الناتج المحلي العالمي، بينما تفيد مصادر صندوق النقد الدولي أن خسائر العالم من انشطار التجارة العالمية قد تصل إلى 7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ويعود ذلك إلى ارتفاع درجات حماية القطاعات الاقتصادية وتشكل تكتلات اقتصادية متضادة. وستتزايد خسائر العالم الاقتصادية مع زيادة عدد التكتلات الاقتصادية المتعارضة.
تتوافر حاليا مؤشرات إلى تزايد القيود على التجارة العالمية بين الدول منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 حتى الوقت الحالي.
وتؤكد بعض المصادر أنه تم فرض ما يزيد على 2000 قيد على تجارة السلع والمنتجات ومئات القيود على تجارة الخدمات والاستثمار في العام الماضي فقط. كما أن هناك تزايدا واضحا في قيود تدفق العمالة، وانتقال التقنية ورؤوس الأموال. تؤكد بعض المصادر ظهور آثار سلبية واضحة لاصطفافات الكتل التجارية على الاستثمارات المباشرة وفي أسواق المال.
لقد حفزت العولمة النمو الاقتصادي العالمي خلال ما يزيد على عقدين من الزمن، ما أسهمت في خفض معدلات الفقر بشكل ملحوظ حول العالم وحسنت مستويات المعيشة لجزء كبير من سكان العالم. لكن في المقابل برزت بعض الآثار السلبية في قطاعات اقتصادية معينة في الدول النامية والدول المتقدمة على حد سواء. كما ازدادت معضلات التلوث البيئي، وارتفعت درجات التنافس على الموارد، فضلا عن تفاقم عدالة توزيع الدخل بين الشرائح السكانية في معظم دول العالم.
شهدت فترة ازدهار العولمة تراجعا في حدة التوترات بين القوى الدولية الرئيسة، معززة بذلك السلام الدولي ما يكون أبرز منافعها غير المنظورة. لكن تراجع الحماس نحو العولمة في الآونة الأخيرة وبروز الكتل التجارية المتنافسة ولد تحديات كبيرة أمام العالم، وربما قد يكون أسهم في زيادة التوترات بين الدول العظمى ورفع حدة المنافسة بينها. وهذا سيحد من معدلات نمو التجارة العالمية وسيقود في نهاية المطاف إلى خفض معدلات النمو العالمي، وعودة معدلات الفقر للنمو مجددا، وتردي أوضاع بعض الدول الأقل دخلا. الأدهى من ذلك قد يرفع تدهور معدلات النمو الاقتصادي حدة التوترات بين الدول الكبرى اقتصاديا ويرفع فرص النزاعات ويهدد السلام العالمي. ولا سبيل لتجنب تدهور العلاقات الدولية إلا من خلال السعي نحو استقرار العلاقات التجارية والاقتصادية الدولية بين كبار اللاعبين في العالم والتعاون على حل الخلافات بينهم والإشكالات الناتجة عن العولمة عن طريق المفاوضات الثنائية ومتعددة الأطراف.