لماذا نستمر على ميزانية البنود؟ .. هناك من يقوم بالمهمة
على هامش "دافوس الصحراء 7" وبعيدا عن حجم الاستثمار والأصول، فعصر الذكاء الاصطناعي سيغير آلية إدارة الأصول من خبراء ماليين إلى منصات ذكاء اصطناعي بدأ التوجه نحو تطبيقها. يدفعنا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، دائما إلى استشراف المستقبل من أجل أن تتقلد المملكة زمام الريادة في كل المجالات بما فيها مستقبل استخدام الذكاء الاصطناعي. وليس أدل على ذلك من حصول السعودية على المركز الأول عالميا في مؤشر الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي، وهو أحد مؤشرات التصنيف العالمي للذكاء الاصطناعي الصادر عن "تورتويس إنتليجنس". هذا الدعم والنهج الحكومي للذكاء الاصطناعي كان مبكرا منذ صدور الأمر الملكي بإنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي عام 1440هـ.
لا شك أن استخدامات الذكاء الاصطناعي على مستوى الأداء الحكومي متعددة، بما فيها آلية تطوير الميزانيات الحكومية، حيث تتسابق الدول لتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي، من أجل رفع كفاية الأداء وجودة الإنفاق الحكومي.
وقد يخطئ البعض عند اقتصار نظرة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي من ناحية تقنية، وكأن التحدي تقني فقط. فالحقيقة التي يدركها المختصون أن تطوير السياسات والإجراءات الحكومية يعد ركيزة أساسية لتحقيق أعلى درجات الاستفادة من الذكاء الاصطناعي، فمثلا من أهم الأولويات التي يتطلبها تعزيز الذكاء الاصطناعي في مجال الميزانيات الحكومية ورفع أدائها، توافر سياسات وإجراءات مالية واضحة تساعد الذكاء الاصطناعي مستقبلا على تحسين كفاية العمليات الحكومية وتيسيرها وتقليل تكاليفها وكشف الفساد والاحتيال وتحديد الاتجاهات النمطية والتنبؤ بالمشكلات المحتملة لمختلف القطاعات الحكومية.
هذه بعض المجالات وغيرها تتطلب وجود سياسات وإجراءات تساعد على استثمار الذكاء الاصطناعي بصورة مذهلة، فمثلا على مستوى أداء الميزانية الحكومية، جاء تسريع التحول المالي، الذي تعمل عليه وزارة المالية، خطوة رئيسة في إحداث التطور الذي نطمح إليه لتحقيق استفادة قصوى من الذكاء الاصطناعي، فنمط ميزانية البنود الحالي line items budget يؤخذ عليها بناؤها على المدخلات ولا تقيس المخرجات المتوقع من الاعتمادات المالية، حيث إنها ترصد بناء على الاعتمادات السابقة ومناقشة الاحتياجات السنوية وفقا للمدخلات Inputs في الميزانية دون الخوض في المخرجات المتوقعة منها بعد اعتمادها Outcomes أو قياس أداء ما تم الإنفاق عليه بصورة عملية، بمعنى أنها قد لا تستطيع الإجابة عن السؤال التالي: متى تتحقق تلك الاعتمادات المخرجات أو الخدمات المتوقع تحقيقها عند اعتمادها ومدة القدرة على قياس أداء الميزانية بصورة واضحة وشفافة؟
المشكلة حتما ليست مرتبطة بالجانب البشري، فوزارة المالية تزخر بقيادات مميزة في أدائها لكن التحدي الحقيقي، يكمن في ضعف نمط ميزانيات البنود في قياس مخرجات النفقات الحكومية، لذا ليس سرا أن دول مجموعة العشرين G20 تقريبا وغيرها تحولت إلى التخطيط المالي متوسط المدى MTFP وميزانية البرامج Program Budget منذ وقت مبكر وقبل الألفية الماضية، وسبقت الإشارة إلى أهمية التحول نحو ميزانية البرامج والتخطيط المالي متوسط المدى من خلال مقالين في عامي 2009 و2013.
بالفعل أدركت وزارة المالية أهمية التحول المالي في نمط ميزانيتها، والتحول نحو التخطيط المالي متوسط المدى، وميزانية البرامج "منذ 2019". لكن في ظل تسارع استخدامات الذكاء الاصطناعي، ومن أجل تحقيق التميز بين دول العالم في الأداء الحكومي، أصبحنا مطالبين بتسريع التحول المالي وإحداث تغيير جوهري في تنفيذ الأعمال، فبدلا من أن تستثمر الحكومة في ضبط نفقاتها عبر تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي بعد اعتماد ميزانيتها، يمكننا ضبط الإنفاق الحكومي قبل اعتماد الميزانيات إذا تم تفعيل التحول المالي نحو ميزانية تقيس المخرجات كحال بقية معظم دول مجموعة العشرين، فمثلا تمكننا ميزانية البرامج من قياس تكلفة الطالب في مختلف المراحل الدراسية وبين مختلف مدن المملكة، وخيارات تقديمها بين وزارة التعليم أو تتولى الدولة شراءها مباشرة من القطاع الخاص وفقا لمعايير أداء تحددها هيئة تقويم التعليم والتدريب كجهة مستقلة تقيس جودة المخرجات التعليمية. وكم مقدار الإيرادات مقارنة بالنفقات؟.. إلخ، وينطبق السيناريو ذاته على بقية الوزارات والجهات الحكومية، خصوصا الخدمية منها. كما أن التخطيط المالي متوسط المدى، وميزانية البرامج، يمكنان من معرفة حجم الفروقات في النفقات على الإدارات الداخلية لمختلف الجهات الحكومية. فمثلا ما مدى تقارب الإنفاق الحكومي على الإدارات القانونية بين وزارة التعليم وبقية الوزارات الأخرى؟ وما سبب اختلافها في حال وجوده؟ إلى آخر الأسئلة التحليلية المالية. بخلاف الأثر المباشر على قياس أثر المشاريع الرأسمالية قبل اعتمادها "لكون المشاريع الرأسمالية ستتحول لاحقا إلى مشاريع تشغيلية". وفي أروقة التدريس لطلبة الدراسات العليا عند الحديث عن نماذج الميزانيات المتابعة، دائما ما يثار سؤال عن التحدي الحقيقي في كيفية تعظيم أثر أنماط الميزانية المختلفة.
ولا شك أن توظيف الذكاء الاصطناعي مع وضوح المعايير والسياسات والمؤشرات وتكلفة الوحدة، تمكنان من معرفة أفضل الخيارات من ناحية التكلفة والجودة والتنبؤ المستقبلي "وفقا لدراسات السعة والطلب المستقبلية والتوجهات العالمية والتضخم، إلى آخره من العوامل المؤثرة". كما أن ميزانية البرامج تعزز حوكمة القرار الحكومي وفقا لمعايير مهنية عالية تحد من الاجتهادات الشخصية، وتعزز الشفافية وتدعم النزاهة. وسبق أن ذكر ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، في ثنايا مقابلة سابقة، "أن أحد أهم أسباب طرح شركة أرامكو للاكتتاب وأولها تعزيز الشفافية". بخلاف ما تبنته الحكومة أخيرا من حزمة تشريعات تسهم في تعزيز الشفافية، وجذب الاستثمارات الأجنبية.
ففعالية الذكاء الاصطناعي، تزيد مع زيادة شفافية السياسات والإجراءات. وكلما زاد وضوح الإجراءات والسياسات المالية، زادت الاستفادة من أثر الذكاء الاصطناعي في دعم تحقيق الكفاية المالية. وتحقيق هذه الغايات ليس بالأمر السهل، لكنه ليس بالمستحيل كونه قد يتطلب إعادة هيكلة في الإجراءات الحالية، ليس في وزارة المالية وحدها، وإنما في معظم الجهات الحكومية. كما تتطلب توافر إدارة تغيير حكيمة قادرة على تجاوز كل التحديات التي تواجهها من أجل تحقيق الأهداف المنشودة. ونحن السعوديين تعودنا على قدرتنا في إحداث التغيير وتجاوز التحديات، ولعل تجاوزنا أزمة كورونا بتميز خير شاهد على ذلك.