مستقبل صناعة المحتوى
مرت الكتابة بثورات نقلتها نوعيا لتغدو على ما هي عليه الآن غير أن نشأتها كانت بدائية إلى أقصى الحدود، كما هي عادة أي فن، فمن المخربشات على الصخور التي دونت تاريخا غابرا إلى الكتابة التصويرية السهلة وبعد أن شعر الإنسان بعجزه عن تذكر الأحداث والتواريخ والأعداد عمد إلى تدوينها في رموز بصرية منقوشة في الصخور وفي أماكن يصعب الوصول إليها، لتكون بعيدة عن نظر المخربين فصور الإنسان والأشكال التوجيهية ثم تطور وابتكر طرقا جديدة للكتابة.
ويعد الحرف النبطي المكتوب على العظام من أقدم الحروف تلتها "البردي" وهو مما اشتهرت به الحضارة المصرية على وجه الخصوص، ثم أخذت الكتابة تتسع وتتطور وبعد ضغط الآشوريين على الطين ظهرت الكتابة على الألواح الطينية باللغة المسمارية عام 3600 قبل الميلاد، غير أن اكتشاف الحبر وصناعة الورق في بلاد الصين يعد الثورة الأبرز والحقبة الأكثر إثارة في تاريخ الكتابة، إذ نقلتها من رسومات وتصورات إلى خطوط مصفوفة، وعملية أكثر تنظيما مما سبق وكانت الصين تحتفظ بسر صناعة الورق.
أخذت ثقافة الكتابة بالانتشار عند جميع الأمم خصوصا عند اليونان وبلاد فارس حتى نضجت عند العرب عبر الدواوين والترجمات وبدأت العلوم تأخذ الطابع الموسوعي والنمطي في التحرير والكتابة، وشاهد ذلك الخطة العلمية التي وضعها البلاذري في كتابه الإنسان الذي يعد أول كتاب عربي يضع خطة بحث تحريرية في تطور ملحوظ وملموس وتوالت الحقب التاريخية على الكتابة وصولا إلى اكتشاف المطبعة.
وقبل اكتشاف المطبعة من المهم الإشارة إلى أن المسلمين نقلوا التقنية الصينية وطوروها لتصبح صناعة كبرى، وأدوا الدور الأكبر في تعميم هذه الصناعة ونقلها إلى أوروبا، ما مهد الطريق لثورة الطباعة لاحقا وبروز المدرسة الألمانية في القرن الـ18، ثم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية ظهرت المدارس البريطانية والأمريكية في الكتابة وصولا إلى ثورة الإنترنت التي تعد النقلة الأبرز والأعظم وما تبعه مع ثورات أخرى بفضل الاكتشافات والاختراعات في مجال الاتصال وتكنولوجيا المعرفة والتواصل.
يمكننا القول إن حقب الكتابة مرت بأعوام طويلة قاربت خمسة آلاف عام حتى تطورت لهذا الشكل، لكن ما حدث في العامين الأخيرين في صناعة الكتابة التوليدية بوساطة الذكاء الاصطناعي يعد الثورة الأعظم والأكثر تأثيرا، وغيرت مفهوم الكتابة بالكامل، والسؤال هنا، هل سنشهد حقبا مختلفة في مستقبل صناعة المحتوى؟ لا ندري.