بزوغ الحمائية واضمحلال العولمة

تبذل المنظمات الأممية بمختلف تخصصاتها والدول المتقدمة اقتصاديا جهودا مستمرة لمعالجة قضية الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل المثقلة بالديون بعد أن قفزت هذه الديون إلى أرقام ضخمة بلغت نحو ثمانية تريليونات و700 مليار دولار، وهو أعلى مستوى لها على الإطلاق، وفق تقديرات البنك الدولي. كما قفز حجم الدين العالمي إلى مستوى قياسي بلغ 226 تريليون دولار. وتعاني الدول الفقيرة العجز عن سداد ديونها، ما تسبب في تهاوي الإنفاق على الصحة والتعليم وأساسيات الحياة. وهناك 91 دولة من أفقر دول العالم ستضطر هذا العام إلى استخدام 16 في المائة من إيراداتها لسداد جزء من ديونها، بسبب الارتفاع الحاد في تكاليف القروض العالمية، ورفع البنوك المركزية الكبرى أسعار الفائدة بسرعة وبوتيرة كبيرة.
ويتم تصنيف أفقر دول العالم عادة على أساس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس لمتوسط دخل الفرد في دولة ما، ووفقا لتعريف البنك الدولي، فإن الفقر المدقع هو أي دخل يقل عن 2.15 دولار يوميا بأسعار 2017.
ويشير تقرير نشرته "الاقتصادية" إلى أن أعداد من يعيشون في فقر مدقع، بحسب هذا التعريف قد انخفض إلى ملياري شخص أي ما كان يعادل (31 في المائة من سكان العالم) في 1998 إلى 690 مليون شخص (9 في المائة من سكان العالم) في 2023، وهذا إنجاز كبير، يوصف بأنه من أهم نتائج العولمة وفتح الاقتصاد العالمي، والحجة النيوليبرالية تقول إن الفقر العالمي وانعدام المساواة في الدخل قد انخفضا على مدى العقدين الماضيين للمرة الأولى منذ أكثر من قرن ونصف القرن، وذلك بفضل الكثافة المتزايدة للتكامل الاقتصادي عبر الحدود وتؤكد الأدلة أن عولمة النظام الاقتصادي العالمي القائم على "المنفعة المتبادلة" أفضل من القائم على "المصالح المتعارضة"، هذه الفرضية تصدقها البيانات، فقد انخفض الفقر بوضوح، (بناء على تعريف الفقر المشار إليه) في الوقت الذي ازدهرت فيه العولمة.
لكن هذا الانخفاض لم يكن متوازنا، إذ انخفضت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع في الدول المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية من 48 في المائة في 1998 إلى 26 في المائة في 2023، (497 مليونا، أي 72 في المائة من الإجمالي العالمي البالغ 691 مليونا)، بينما انخفضت في بقية أنحاء العالم من 20 في المائة في 1998 إلى 3 في المائة في 2023، (193 مليون شخص، أي 28 في المائة)، وهذا يعني أن العولمة لم تكن قادرة على حل مشكلات الدول الأشد فقرا، ومن الواضح كذلك أن هدف القضاء على الفقر المدقع لن يتحقق إلا بتركيز الاهتمام والموارد على أفقر دول العالم، حيث الجزء الأكبر من الفقر المدقع، فالدول المصنفة مؤهلة للإقراض من قبل المؤسسة الدولية للتنمية، تمثل تلك الدول التي تتطلب جهودا أكبر لمكافحة الفقر، وهي 75 دولة فقيرة من بينها 39 دولة في إفريقيا، لكن لا يبدو أنه بالمستطاع حل مشكلة الفقر ما لم تحل مشكلة الديون، فالتقرير يؤكد أن هذه الدول أصبحت تعتمد بإفراط على مصادر تمويل أكثر تكلفة، وأصبحت الديون عبئا يكاد يصيبها بالشلل، فمن بين 75 دولة هناك 28 دولة معرضة بشدة لخطر أن تكون دولا مثقلة بالديون، بينما هناك 11 دولة منها أصبحت فعلا مثقلة بالديون، وبلغت نسبة الدول المعرضة لخطر ضائقة الديون 56 في المائة في 2023، وهذا يقود بدوره إلى مشكلة أخرى فقد قفزت تكلفة خدمة الديون في هذه الدول من 26 مليار دولار في 2012 إلى 89 مليار دولار في 2022، مع ارتفاع مدفوعات الفائدة وحدها من 6.4 مليار دولار في 2021 إلى 23.6 مليار دولار في 2022.
إن هذه التقديرات تأتي مع تعريف الفقر المدقع عند دخل يومي أقل من 2.13 دولار، ومع ذلك فإن هذا الحد غير متفق عليه تماما، فهناك تقارير دولية ترى أن معدلات الفقر قد ارتفعت إذا تم استخدام معيار أقل من 3.65 دولار في اليوم، فهناك 165 مليون شخص إضافي وفقا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويدعو البرنامج إلى توفير حماية اجتماعية قابلة للتكيف و"وقف الديون" بإعادة توجيه مدفوعات الديون نحو النفقات الاجتماعية الحيوية، وفي تقرير للبرنامج أكد فيه أن هناك علاقة بين ارتفاع مستويات الديون، وعدم كفاية الإنفاق الاجتماعي، والزيادة المثيرة للقلق في معدلات الفقر، واليوم تدفع 46 دولة أكثر من 10 في المائة من إيرادات حكوماتها العامة على صافي مدفوعات الفائدة.
إن خدمة الديون تجعل من الصعب بصورة متزايدة على الدول دعم سكانها من خلال الاستثمارات في الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. ورغم أن العلاقات تبدو واضحة بين الفقر وبين خدمة الدين العام في الدول الفقيرة، إلا أن التفاؤل بحل مشكلة الفقر بحلول 2030 يبدو غير واقعي، لأن العولمة أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى، فالحمائية والتكتلات يزيدان من معاناة العولمة، والعودة للسياسات الصناعية التي سبق الحديث عنها، مع استمرار ارتفاع معدلات الفائدة، وقد أشرنا من قبل إلى أن مسيرة رفع الفائدة تزيد من مواجهة التدفقات النقدية الخارجة لمصلحة الودائع النقدية وصناديق سوق المال منخفضة التكلفة ومنخفضة المخاطر، حيث بلغ معدل العائد على الودائع المنخفضة المخاطر 6.2 في المائة ومعدلات الفائدة على حسابات الادخار تزيد على 5 في المائة، ما تمثل تحديا كبيرا لمديري الصناديق، فقدرة الدول الأكثر فقرا على الوصول للدين أصبحت محفوفة بالمخاطر، من حيث إن الاقتراض التجاري من جانب هذه الدول غير آمن ببساطة، والأمر الأكثر أهمية هو أن هذه الدول ستحتاج إلى قدر أكبر بكثير من التمويل الميسر. لكن هذه المهمة ليست سهلة كما يبدو، فتراجع العولمة يجعل من هذه الدول عالقة في الدين، وليس هناك أمل في الخروج منه، فقدراتها الإنتاجية والتصديرية تتراجع كلما تراجع أفق العولمة، ولا أمل واضح بشأن إيقاف هذا التراجع في ظل فشل مجموعة العشرين في الخروج بحل لمشكلات التجارة العالمية، لقد كانت العولمة قادرة على إخراج الصين والهند وعدد من الدول من براثن الفقر، لكن هذه الآلية فقدت قدرتها على الحركة كما يبدو، خاصة أن معدل انخفاض الفقر يتراجع، ورغم التذمر الواضح من تراجع معدل الانخفاض ووجود حالة من الانخفاض في معدلات الفقر يعدان ميزة اليوم، وما نخشاه هو أن تعود المعدلات للارتفاع في ظل زحمة من المشكلات الجيوسياسية والأزمات الصحية والتجارية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي