نمو بريطاني لا يمكن البناء عليه
تفادى الاقتصاد البريطاني في العام الماضي، كغيره من الاقتصادات المتقدمة الأخرى الانكماش، وإن شابه التباطؤ، أو بعض الهبوط الناعم، إن جاز القول. وهذا يوفر للحكومة البريطانية المحافظة، بعض "الوقود" في الانتخابات العامة التي ستجري هذا العام، وهي انتخابات يمكن بسهولة وصفها بأنها حساسة جدا، مقارنة بغيرها من الانتخابات السابقة. وتواجه الحكومة مصاعب جمة على الصعيد الاقتصادي، رغم تحقيقها قفزات لافتة على صعيد خفض التضخم، وتهدئة نسبية لسوق العقارات، التي تمثل في النهاية مؤشرا "انتخابيا" غير مباشر، خصوصا بعد أن تفادت الحكومة بجهود قوية لجيرمي هانت وزير المالية، انهيارا كان شبه محقق في أعقاب الميزانية الكارثية التي أطلقتها حكومة ليز تراس العام الماضي، وأدت إلى إجبار هذه الأخيرة على الاستقالة في غضون 44 يوما من وصولها إلى الحكم.
الانتخابات العامة المقبلة، باتت مرتبطة منذ مطلع العقد الحالي بتفاصيل الوضع الاقتصادي المحلي، خصوصا من سلسلة من الانتكاسات التي مر بها الاقتصاد الوطني، التي أسفرت عن احتلاله المركز الأخير في قائمة اقتصادات مجموعة السبع، وقبل الأخير في قائمة مجموعة العشرين. ومن أهم المشكلات، تلك الناتجة عن ضعف الإنتاجية، وتراجع قطاع الخدمات الذي يمثل محورا رئيسا في الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن انخفاض معدل النمو، الذي يبدو أنه لن يرتفع في الفترة المقبلة، نتيجة سياسة التشديد النقدي التي اتبعها بنك إنجلترا المركزي، كسائر البنوك المركزية الرئيسة حول العالم. فضلا عن ارتفاع حجم الدين العام إلى أكثر من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وتردي الخدمات الصحية الحكومية، والاضطرابات التي تشهدها البلاد في علاج مشكلة اللاجئين، وحتى مستوى التزام حكومة ريشي سوناك بالمعايير العالمية للمناخ.
ولا شك أن مسار الاقتصاد خلال الأشهر القليلة الماضية، أضاف بعض الطمأنينة لحكومة حزب المحافظين الذي يعاني فارقا كبيرا بلغ 17 نقطة لمصلحة حزب العمال المعارض، وتنامي شعبية الأحزاب الصغيرة الأخرى، التي من الممكن أن يكون لها دور في حسم المعركة الانتخابية المقبلة، خصوصا على الساحة الأسكتلندية. لكن هذه الطمأنينة ليست قوية بما يكفي لأن يضمن فيها الحزب مقاعده البرلمانية. فكل المؤشرات تدل على أن المحافظين سيخسرون حتى في بعض معاقلهم الانتخابية، كما حدث في الانتخابات الفرعية التي جرت قبل أسابيع، وساعدت حزب العمال على اقتناصها، مع حزب الأحرار الديمقراطي الذي استعاد وهجه في الآونة الأخيرة. الصورة الحقيقية للاقتصاد البريطاني، لا تزال غير مشرقة، ولن تكون كذلك على الأقل في العام المقبل، حيث يواجه إمكانية الدخول في "ركود فني"، مع بلوغ النمو مستوى لا يمكن البناء عليه. فحتى بنك إنجلترا المركزي لا يتوقع نموا لهذا الاقتصاد في العام الجاري، على أساس أن النمو سيشهد تباطؤا شبه مؤكد.
الصورة العامة للاقتصاد البريطاني باتت مرتبطة بقوة في الميزانية السنوية للبلاد التي تعلن عادة في الشهر الثالث من كل عام. وهذه الميزانية لا بد أن تتسم بـ"سمات انتخابية"، استعدادا للاستحقاق الانتخابي الصعب، بما في ذلك العمل على خفض الضرائب، وإعادة تحريك قطاع الخدمات، وتوفير الدعم اللازم الذي تراجع لقطاع الخدمات الصحية خصوصا. إنها مسألة تتعلق مباشرة بالناخب البريطاني، الذي شهد تغيير خمس حكومات في سبعة أعوام فقط. دون أن ننسى الجانب السلبي المهم أيضا المتعلق بالخلافات داخل حزب المحافظين التي بلغت مستوى الحرب الأهلية في بعض الأوقات. وفي كل الأحوال، لا بد أن تركز الحكومة في الفترة القصيرة المتبقية على مسألة النمو الذي يوفر لها قوة دعم تحتاجها الآن أكثر من أي وقت مضى.