مسألة نقل التقنية .. بين المنافسة والتعاون
إذا أردنا العودة إلى جذور كلمة تقنية، الترجمة العربية لكلمة "تكنولوجي"، لوجدنا أنها تتكون من كلمتين "تكنو" ومعناها مهارة أو صنعة، و"لوجي" ومعناها موضوع أو علم مستهدف. بذلك يكون المعنى المقصود بكلمة تقنية هو "المهارة أو الصنعة في الموضوع المستهدف". وكثيرا ما تعرف العلوم بشتى أشكالها على أنها المعرفة التي تجيب عن السؤال "لماذا"، أي تعطي مسببات معطيات هذا العلم، بعد أن تغوص بحثا واستيعابا في أعماق ما يقدم من معرفة. بينما تعرف التقنية على أنها تجيب عن السؤال "كيف"، أي تقدم المهارة أو الصنعة اللازمة لتوظيف معطيات العلم، والخروج بنتائج أو منتجات يمكن للإنسان الاستفادة منها على أرض الواقع، مقابل قيمة يستطيع تقديمها.
وهكذا نجد أن المهارة والصنعة اللتين تحملهما التقنية، في أي مجال من المجالات، يمكن أن تعطيا منتجات تحمل قيمة. ولعلنا نقول إن هذه القيمة يمكن أن تتجدد وتزدهر مع وجود مبتكرات تسعى إلى تطويرها، أو تقديم بدائل أفضل منها، أو ربما فتح آفاق تقنية جديدة غير مسبوقة بشأنها. وعلى هذا الأساس، تشهد التقنية في عالم اليوم تنافسا على التجدد وتقديم الأفضل، وتشهد أيضا تعاونا على توسيع الاستفادة مما هو متاح منها، على أوسع نطاق ممكن. ومن ذلك تبرز أمامنا مسألة نقل التقنية.
ترد مسألة نقل التقنية في مجالين اثنين. مجال يتطلع إلى الابتكار والتجديد التقني والمنافسة مع ما هو قائم. وهو المجال الوارد، كمكون من ثلاثة، من مكونات ما يعرف بالمهمة الثالثة للجامعات. تسعى هذه المهمة إلى نقل الاكتشاف والإبداع المعرفي لديها، عبر الفكر التطبيقي للابتكار، إلى المهارة والصنعة التقنية، من أجل تقديم منتجات تحمل قيمة، وتسهم في التنمية. وتشهد هذه المهمة جهودا فيما يعرف بأودية التقنية، التي تمثل ساحات التعاون بين الجامعات والشركات، سواء كانت هذه الشركات تابعة للقطاع الخاص، أو مرتبطة بما يدعى أحيانا بالقطاع الثالث، حيث الشركات المملوكة للدولة، كليا أو جزئيا.
وننتقل إلى المجال الثاني لنقل التقنية، وهو المجال الذي يهتم بالتوسع في تقنية ناجحة تقدم منتجات مفيدة، ترغبها السوق في أماكن مختلفة من العالم، مثل تقنيات السيارات والإلكترونيات التي تقدمها شركات مختلفة حول العالم، ومثل تقنيات أخرى غيرها أيضا. في هذا المجال يجب ألا يكون التوسع المطلوب ناتجا عن التجارة فقط، بل أن يكون ناتجا عن التعاون الذي يؤدي إلى توزع أماكن الإنتاج، وما يواكب ذلك من استيعاب للمهارة والصنعة التقنية على نطاق عالمي أوسع، ومن تشغيل لليد العاملة في أماكن التوزع المختلفة. وقد لا يمثل ذلك الحل الاقتصادي الأمثل لبعض الشركات، لكنه الحل الأفضل للمجتمع في إطار التنمية الشاملة اقتصاديا واجتماعيا، وفي إطار اكتساب المهارة والصنعة التقنية، والتوجه نحو بناء الخبرة في المستقبل.
لا شك أن للسعودية جهودا مشهودة في مسألة نقل التقنية. ففي أودية التقنية في بعض الجامعات مثال، وفي الشركات الكبرى مثل "سابك" مثال آخر، وفي برنامج التوازن الاقتصادي، بما في ذلك شركة "الإلكترونيات المتقدمة" مثال ثالث. وتطل اليوم شركة "آلات"، وقبلها شركة "سير"، فاتحة مستقبلا تقنيا واعدا، يقود إلى الحد من الاستيراد، وزيادة التصدير، وتقديم تنمية شاملة مستدامة.
ولعله لا بد من كلمة أخيرة في مسألة مجالي نقل التقنية، مجال المنافسة والتجدد، ومجال التعاون والتوسع. فليس المجالان منفصلين، بل إنهما متكاملان. فوجود التقنية في إطار التوسع في الإنتاج وجود محمود لاستقبال الإبداع من الجامعات، وتفعيل الابتكار، والنجاح في تقديم عطاء تقني متجدد ومتميز.