الاستراتيجية الاقتصادية بين بكين وواشنطن .. الأولويات والمرونة
الوضع لم يكن مستداما بين الدولتين العظميين، وأصبحت المشكلات التي يفرضها اختفاء الوظائف الجيدة، واتساع الفوارق الإقليمية، وزيادة الاعتماد الأجنبي على الصناعات ذات الأهمية الاستراتيجية أكبر من أن نتجاهلها. وبدأ صانعو السياسات في الولايات المتحدة يولون مزيدا من الاهتمام إلى الجانب الإنتاجي من الاقتصاد، أولا في ظل إدارة ترمب، وبمنهجية أكبر في عهد جو بايدن، الذي اعتمدت إدارته مجموعة مختلفة من الأولويات التي تفضل الطبقة المتوسطة، ومرونة سلسلة التوريد، والاستثمار الأخضر.
وترتكز الاستراتيجية الجديدة على سياسات صناعية لا تختلف كثيرا عن تلك التي طالما مارستها الصين. وتحظى التكنولوجيات الجديدة وأنشطة التصنيع المتقدمة بالدعم، شأنها في ذلك شأن التكنولوجيات المتجددة والصناعات النظيفة. ويحظى الموردون المحليون والمنتوج المحلي بالتشجيع، في حين يعاني المنتجون الأجانب التمييز. وتخضع استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة لتدقيق شديد. وبموجب مبدأ "سياج مرتفع حول ساحة صغيرة"، تسعى الولايات المتحدة إلى تقييد قدرة الصين على الوصول إلى التكنولوجيات التي تعد بالغة الأهمية للأمن القومي.
وإذا نجحت هذه السياسات في إنتاج مجتمع أمريكي يتمتع بقدر أكبر من الازدهار والتماسك والأمان، فإن باقي مجتمعات العالم ستستفيد منها أيضا، تماما كما أفادت السياسات الصناعية الصينية الشركاء التجاريين عن طريق توسيع نطاق السوق الصينية، وخفض أسعار مصادر الطاقة المتجددة. إذن، هذا يعني أن هذه السياسات والأولويات الجديدة لا تستلزم صراعا متزايد العمق بين الولايات المتحدة والصين، لكنها تتطلب مجموعة جديدة من القواعد التي تحكم العلاقة بينهما.
ومن الجيد أن يبدأ الجانبان الابتعاد عن النفاق والاعتراف بالتشابه بين أساليبهما. فالولايات المتحدة ما زالت تنتقد الصين بدعوى أنها تنتهج سياسات تجارية وحمائية وتنتهك قواعد النظام الدولي "الليبرالي"، في حين يتهم صانعو السياسات في الصين الولايات المتحدة بتخليها عن مبادئ العولمة وشن حرب اقتصادية على الصين. ويبدو أن أيا من الجانبين لا يدرك هذه المفارقة: فقد وضعت الصين ستارا على نافذتها المفتوحة، وتضع الولايات المتحدة سياجا عاليا حول ساحة صغيرة.
وتتلخص الخطوة المهمة الثانية في السعي إلى تحقيق قدر أكبر من النزاهة والتواصل على نحو أفضل فيما يتعلق بأهداف السياسات. وفي اقتصاد عالمي مترابط، لا بد أن يؤثر عديد من السياسات التي تستهدف الرفاهية الاقتصادية الوطنية، والأولويات الاجتماعية والبيئية المحلية، سلبا في الآخرين.
ثالثا، من الضروري ضمان حسن توجيه سياسات الأمن القومي التقييدية نحو الأهداف المحددة. وتصف الولايات المتحدة ضوابط التصدير بأنها تدابير "مصممة بعناية" تستهدف "شريحة ضيقة" من التكنولوجيات المتقدمة التي تثير مخاوف "واضحة" تتعلق بالأمن القومي. إن هذه القيود التي أعلن عنها ذاتيا تستحق الثناء، لكن هناك تساؤلات عما إذا كانت السياسة الفعلية المتعلقة بأشباه الموصلات تناسب هذا الوصف، وعن الشكل الذي قد تبدو عليه التدابير الإضافية. وفضلا على ذلك، غالبا ما تعرف الولايات المتحدة أمنها القومي بمصطلحات شاملة على نحو مبالغ فيه.
وستستمر الولايات المتحدة في وضع مخاوفها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتلك المتعلقة بالأمن القومي في المقام الأول، ولن تتخلى الصين عن نموذجها الاقتصادي الذي تقوده الدولة. فالتعاون لن يكون هو النظام السائد اليوم. لكن الأمر قد يصبح أسهل بعض الشيء إذا أدرك كل من الدولتين أن سياساته لا تختلف كثيرا ولا تضر بالضرورة الجانب الآخر.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org