بنية منظومة الابتكار .. بنى متكاملة؟

عندما نقول منظومة، فنحن نتحدث عن كيان يبدو حياً، يقوم بأداء نشاطات تُسهم في تنفيذ وظيفة مُحددة ذات أثر. وفي هذا الإطار، تتمتع المنظومة عادة بإستراتيجية توجه نشاطاتها، وتشمل عناصر حية مسؤولة عن هذه النشاطات، إلى جانب عناصر أخرى تستخدمها في ذلك، ضمن بيئة داخلية مُحيطة تُحوكم هذه النشاطات، تُفعّلها أو ربما تحد منها. وللمنظومة في عملها بيئة خارجية تُؤثر فيها وتتأثر بها، وتُتيح لها التعامل مع منظومات أخرى. وليس للمنظومة أبعاد مُحددة، فقد تتضمن نشاطات مُعقدة ومُتكاملة ضمن ميدان واسع النطاق، وقد تشمل نشاطات بسيطة ضمن ميدان محدود النطاق. وعلى هذا الأساس يُمكن النظر إلى أي منظومة كبرى مُعقدة النشاطات كمجموعة مُتكاملة من المنظومات الأصغر التي تعمل في خدمتها.
يُعطي النظر إلى مشهد النشاطات الحية الموجهة، في مُختلف المجالات، كمنظومات تتمتع بالصفات سابقة الذكر، فهماً أعمق لشؤون هذه النشاطات، وأدوار عناصرها، وما يرتبط بها. ويُعزز ذلك القدرة على التعامل معها، وتقييم أدائها، وتفعيل كفاءتها في تحقيق غاياتها المنشودة. ويبرز الابتكار، في هذا الإطار، كمشهد لنشاطات حية موجهة، عمادها الإنسان، وما منحه الله تعالى من مواهب. وتجري هذه النشاطات على مستويات مُختلفة، وفي شتى الموضوعات، حيث تُمثل بذلك منظومة كبرى، تتكون من منظومات أخرى داعمة لها، ومُتكاملة فيما بينها.
يستند الابتكار بالطبع إلى إبداع بشري لمعرفة حية تحمل قيمة، يقوم بتجسيدها، ويسعى إلى إيجاد الوسائل اللازمة لتطبيقها على أرض الواقع. والغاية المنشودة هي تحقيق فوائد تتمثل في توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، فضلاً عن بناء رصيد معرفي يتنامى بالخبرة والتطوير الابتكاري المُستمر. ويرتبط الابتكار بمجموعات من النشاطات المُختلفة، لكن المُتكاملة أيضاً. وعلى ذلك، يُمكن النظر إلى كُل من هذه المجموعات كمنظومة خاصة، تُحقق غاية بعينها، لتخدم بها توجهات منظومة الابتكار الكبرى، وتعزز عملها على تنفيذ وظيفتها. وسنحاول في التالي عرض هذه المنظومات المُختلفة المُفعلة لمنظومة الابتكار، ضمن مستويات، أولها إعداد الإنسان وتأهيله للعطاء المعرفي، وثانيها تفعيل توليد المعرفة واكتشاف مزيد منها، والإبداع والابتكار فيها، إضافة إلى ثالثها المعني بتوظيف معطياتها، والاستثمار فيها، والاستفادة منها في التنمية المُستدامة، وتوفير حياة طيبة للجميع.
ترتبط نشاطات المستوى الأول، أي مستوى إعداد الإنسان للابتكار بالنواحي الثقافية، والتعليم والتدريب، والتفكير العلمي المُعزز بالسببية، وتوفر التعلم مدى الحياة، فضلاً عن نشاطات تمكين الموهوبين وتفعيل إمكاناتهم. ويُمكن النظر إلى نشاطات إعداد الإنسان هذه كمنظومات عدة لكُل منها دور في تأهيل الإنسان، وتفعيل دوره في العطاء المعرفي والابتكار. يُمكن أن تكون هُناك منظومة تختص بثقافة الابتكار، تسعى إلى بيان أهميته، وتقدير دور المُبتكرين، من خلال وسائل الإعلام والثقافة بأساليب مُناسبة تبني في الإنسان توجهات توليد المعرفة المُتميزة بالجِدة والجودة والجدوى والجاذبية. كما يُمكن أن تكون هُناك منظومة للتعليم وتفعيل المنهجية العلمية، والعقلية النامية المُتطلعة إلى التجدد المعرفي والإبداع والابتكار. ويُضاف إلى ذلك منظومة لرعاية الموهوبين والكشف عن مجالات تميزهم، وتمكينهم من العطاء. إضافة إلى منظومة للتعلم مدى الحياة، ترصد مستجدات العالم وتوجهاته، وشؤون العمل والوظائف فيه، موفرة للمنظومات المعرفية الأخرى ما يلزم للمُتابعة والتجدد، والاستجابة لمُتطلبات الحياة.
يتلقى المستوى الثاني، وهو مستوى تفعيل توليد المعرفة، دعماً مأمولاً من مستوى إعداد الإنسان. ولهذا المستوى الثاني نوعان من النشاطات. نشاطات البحث العلمي والاكتشاف والإبداع والابتكار من جهة، إضافة إلى النشاطات المكملة لها، والعاملة على تطوير معطياتها نحو مُنتجات وخدمات مُفيدة تتمتع بالجدة والجودة والجدوى والجاذبية في السوق. وهُناك في إطار هذه النشاطات منظومات عدة، مُتخصصة في شتى المجالات، يُمكن إنشاؤها وتوجيهها، في إطار البحوث الجامعية، وأودية التقنية وحاضناتها، ومراكز البحوث والتطوير في المُؤسسات، وفي الشركات المُختلفة.
يستفيد المستوى الثالث من سابقيه، حيث يتضمن نشاطات الاستثمار في معطيات الابتكار، وتوظيفها، والاستفادة منها في توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، واكتساب الخبرة، والعمل على الاستفادة منها في التطوير المُستمر. ويُمكن النظر إلى هذه النشاطات كمنظومات ترتبط بمجالات مُختلفة، تقودها الشركات والمُؤسسات المالية والاستثمارية بالتعاون جهات الخبرات ذات العلاقة.
تشمل منظومة الابتكار التي نتطلع إليها منظومات عدة يجب أن تكون مُتكاملة وشاملة لمستويات إعداد الإنسان، وتوليد المعرفة اكتشافاً وإبداعاً وابتكاراً، والاستثمار فيها وتوظيفها والاستفادة منها. ولعل الأمل في بناء مثل هذه المنظومة المُتكاملة، وحوكمتها، وإدارتها، وتفعيل عطائها، يكمن في هيئة البحث والتطوير والابتكار وتطلعاتها المُستقبلية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي