لماذا يهاجر الأثرياء ملاذاتهم التقليدية؟

ضربت العالم في الأعوام الأخيرة عديد من الصدمات أثرت بشكل مباشر في مسار الاقتصاد وتحركات روؤس الأموال، البداية مع أزمة كورونا التي ما زالت آثارها تعانيها أهم الدول وصولا إلى التوترات الجيوسياسية سواء في منطقة الشرق الأوسط أو الأزمة الروسية الأوكرانية، إضافة إلى التوترات بين الولايات المتحدة والصين، تلك الصدمات فرضت قواعد جديدة بالنسبة إلى أصحاب الثروات، فعديد من الوجهات التقليدية المفضلة أصبحت غير ملائمة بينما برزت ملاذات جديدة خطفت الأنظار إليها لما توفره من مزايا متعددة سواء كانت مالية وضريبية أو اجتماعية.
فوفقا لبيانات مؤسسة هنلي آند بارتنرز (Henley & Partners) فقد ارتفع عدد المليونيرات المهاجرين الذين تركوا مقراتهم الحالية وانتقلوا إلى بلد جديد (الأفراد الذين يمتلكون ثروة سائلة قابلة للاستثمار تقدر بمليون دولار أو أكثر) من 25 ألف في 2021 ليصل في 2023 إلى 120 ألف مسجلة بذلك مستوى قياسي، وذلك مع توقعات بأن يصل العدد بنهاية 2024 إلى 128 ألف مليونير.
وعند النظر إلى أهم الدول المتأثرة سلبا من هجرة أصحاب الثروات، فتعد الصين الخاسرة الكبرى حيث وصل عدد الأثرياء الذي هاجروا من الصين في 2023 إلى نحو 13.8 ألف مع توقعات بأن يرتفع العدد خلال 2024 ليصل إلى 15.2 ألف مليونير، النزوح الكبير من الصين تفسره عديد من الأسباب يأتي في مقدمتها حالة الشك الاقتصادي التي أصابت البلاد بعد انتشار وباء كورونا مع فرض السلطات لحظر شامل، الأمر الذي أدخل ثاني أكبر اقتصاد في العالم في مرحلة انكماش، إضافة إلى التوترات المتصاعدة مع الولايات المتحدة خاصة في مجال التكنولوجيا، بجانب التوترات مع الجارة تايوان.
تليها بريطانيا التي تصنف دائما بأنها واحدة من أهم الملاذات الآمنة للمستثمرين والأثرياء المختلفين في العالم، حيث خسرت في 2023 نحو 4.2 ألف مليونير ومن المتوقع أن يتضاعف العدد في 2024 ليصل إلى 9.5 ألف، عملية الانتقال من بريطانيا تأتي في ظل تخبط اقتصادي كبير يضرب البلاد خاصة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
على الجانب الآخر تأتي دولة الإمارات على رأس المستفيدين عالميا من هجرة الأثرياء، حيث جذبت في 2023 أكثر من 4.7 ألف مليونير مع توقعات بأن يرتفع العدد في 2024 إلى 6.7 ألف، تحول الإمارات إلى وجهة مفضلة لأصحاب الثروات دعمتها عديد من الإصلاحات التي تبنتها لتسهيل ممارسة الأعمال بجانب الحوافز المالية والضريبية إضافة إلى الحوافز المتعلقة بإجراءات منح التأشيرة والإقامة، حيث أصبحت مدن مثل دبي الوجهة المفضلة للأثرياء القادمين من الهند وروسيا بجانب المستثمرين في مجالات العملات المشفرة، الولايات المتحدة أيضا استفادت من تراجع شعبية الوجهات التقليدية مثل لندن لتتحول لوجهة مفضلة للمستثمرين والأثرياء، حيث جذبت في 2023 نحو 2.2 ألف مليونير، بينما تشير التوقعات إلى ارتفاع العدد في 2024 إلى نحو 3.8 ألف، بينما ما زالت وجهات أخرى مثل سنغافورة وكندا تحتفظ بأهميتها الكبيرة لعديد من أصحاب الثروات.
الحوافز الكبيرة التي توفرها الدول الساعية لجذب الأثرياء تحصل في مقابلها على عوائد اقتصادية هائلة ، فالأفراد القادمين من الخارج يحضرون معهم ثرواتهم للدولة التي سيقيمون فيها وتستفيد القطاعات المختلفة من تلك الأموال مثل قطاع العقارات والقطاعات الاستهلاكية المختلفة. انتقال الأثرياء أيضا يتبعها فتح أو نقل أو إدراة الشركات من داخل الدولة الأمر الذي ينعكس على الإيرادات الحكومية ومعدلات التشغيل، العامل الأهم أن عملية الانتقال لأصحاب الثروات وما لهم من ثقل وتأثير دولي يمنح الدولة شهادة ثقة بأنها وجهة آمنة ومستقرة وجاذبة للاستثمار.
ختاما فإن التطورات السريعة التي يشهدها العالم على جميع الأصعدة الاقتصادية إضافة إلى التوسع في التوترات الجيوسياسية باتت تفرض واقعا جديدا بالنسبة للأثرياء، حيث بدأت عديد من الملاذات التقليدية تفقد بريقها المستمر منذ عقود، مقابل صعود وجهات جديدة استطاعت جذب أصحاب الثروات، وتبدو بعض دول منطقة الشرق الأوسط في وضعية ملائمة للسيطرة على جزء من تدفقات الأثرياء وذلك بفضل البيئة التشريعية والتنظيمة المتطورة إضافة إلى حالة الاستقرار الاقتصادي والسياسي التي تعيشها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي