هل الأزمة المتعددة سيئة إلى هذا الحد؟

يبدو أن الاقتصاد العالمي الهادر وحالة الابتهاج الشديدة التي اجتاحت أسواق الأوراق المالية أخيرا، تتعارض مع عالمنا المُفَتَّت الذي تمزقه الأزمات. لقد أفرزت الصراعات التي تبدو مستعصية على الحل في غزة وأوكرانيا انقسامات عميقة على المستوى الدولي وداخل البلدان الصناعية الغنية. ومع عجزها عن الاتفاق على ما يخدم مصالحها الوطنية، تناضل الديمقراطيات لصياغة سياسات خارجية متماسكة. باختصار، تنتشر الأزمات السياسية في كل مكان، باستثناء عالَم البيانات الاقتصادية.

ولكن بأي شيء يُنبئنا هذا التباين؟ هل تجعلنا مصادر النمو الاقتصادي الأساسية أكثر أمانا على الرغم من كل شيء، أو هل ينبغي لنا أن نكون أشد قلقا بشأن ما هو آت؟ تبدو الحجة لصالح التشاؤم قوية. فبعد صدمة العرض السلبية التي أحدثتها جائحة كورونا 2019 (كوفيد-19)، ثم الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا، فقدَ الناس الأمل في قدرة الاقتصاد وحده على حل مشكلاتهم. ومع انتشار الحروب وتصاعد التوترات، تنامى خطر حدوث صدمات عرض سلبية جديدة. ولم تعُد أوهام حصانة الاقتصاد ضد السياسة تراود أحدا.

في حين عملت سويسرا ذات يوم كوسيط فعال في الصراعات الدولية، فإن جهودها الأخيرة كانت بلا طائل. سعى مؤتمر بورجنستوك للسلام في يونيو إلى إنتاج مخطط لإحلال السلام في أوكرانيا، ولكن لم تحضر روسيا وغابت الصين، ورفضت قوى الأسواق الناشئة مثل الهند، والبرازيل، والسعودية، وتايلاند، وإندونيسيا التوقيع على البيان الختامي.

في الوقت ذاته، تتدهور أيضا الحوكمة الاقتصادية العالمية. فقد أصبحت منظمة التجارة العالمية في حالة احتضار، وبدأت علامات الشيخوخة تظهر على مؤسستي بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، اللتين تحتفلان حاليا بذكرى مولدهما الـ80. وحتى نسخة الصين البديلة للعولمة، مبادرة الحزام والطريق، تترنح الآن تحت وطأة أعباء الديون.

تفسر هذه التطورات وغيرها شعبية مصطلح "الأزمات المتعددة". صاغ هذا المصطلح الفيلسوف الفرنسي إدجار موران في تسعينيات القرن العشرين، ثم تبناه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ثم حوله المؤرخ آدم توز إلى فكرة فيروسية الانتشار أثناء الجائحة.

مفهوم الأزمة والأزمة المتعددة ليس جديدا بالطبع. فكل من المفهومين متأصل في التاريخ البشري، بالتالي في العقل البشري أيضا. تميل الصدمة العميقة المتولدة عن نوبات من المجاعة، والمرض، والحرب -فرسان نهاية العالم قبل العصر الحديث- إلى ترك الانطباع بأن كل التحديات مترابطة. أو كما يقول كلوديوس في مسرحية هاملت لشكسبير، "عندما تأتي الأحزان، فإنها لا تأتي فرادى على هيئة جواسيس بل في كتائب".

الواقع أن نهاية الإمبراطورية الرومانية-مع توسعها المفرط، وفشلها في توفير الإمدادات للمدن الكبرى، وفجوات التفاوت المتزايدة الاتساع، والمجاعات، والهجمات الخارجية- كانت بكل تأكيد مُـكـتَـنَـفة بأزمة متعددة. على نحو مماثل، في أربعينيات القرن الرابع عشر، بعد تخلف دول عن سداد ديونها (الأمة الإنجليزية على رأسها) وإفلاس البيوت المالية الكبرى في فلورنسا، اندلعت حروب أكثر، فساعَد ذلك على انتشار الطاعون الأسود في شتى أرجاء أوروبا. وعلى هذا فقد قوطِـعَـت بوحشية النسخة من العولمة التي ظهرت في أواخر العصور الوسطى.

الواقع أن المصطلحات المستخدمة في وصف الحياة الشخصية أصبحت قابلة للتطبيق على الاتجاهات السياسية الأوسع نطاقا. على سبيل المثال، شرعت الصين والولايات المتحدة في "انفصال واع"، وهو المصطلح ذاته الذي استخدمته جوينيث بالترو لوصف انفصالها عن كريس مارتن.

ربما يكون العالم أكثر أمانا مما نتصور. ورغم أننا نواجه صدمات عرض سلبية متعددة، فإن هذه الصدمات سوف تولد إبداعات جديدة قد تُـفـضي إلى مزيد من الرخاء والأمن، وليس العكس.

.

خاص بـ"الاقتصادية"

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.

www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي