التلوث الرقمي وضجيج الذكاء الاصطناعي
لا بد أن قرأ أو سمع القراء عن أن كثيرا من الناس في الغرب يسعى إلى الهرب من المدن المكتظة المليئة بالضجيج والتلوث والعيش في كنف الأرياف حيث الهدوء والطبيعة الخلابة.
لا شك هناك فروق كبيرة بين الريف والمدينة في عالم اليوم. المدينة تعج شوارعها بالسيارات وتخترقها طرق رئيسة تسمح بقيادة المركبات بسرعة كبيرة. ولا يعلم الأثر السلبي الذي يتركه ضجيج المركبات إلا الذي عاش أو يعيش بالقرب من طريق رئيس أو أوتوستراد.
والمدن عامة تعاني معدلات تلوث قد تكون أحيانا خانقة. حتى يومنا هذا وفي بلد يعد من أكثر بلدان العالم اهتماما بالبيئة مثل السويد، قد لا تمضي فترة طويلة حتى تتكدس طبقة من السخام على أسطح المنازل حديثة البناء.
أظن أنني لن أضيف جديدا لو أسهبت في سرد مضار التلوث والعيش في المدن المزدحمة، بالطبع لا أنفي أن هناك كثيرا من الناس يرى أن العيش في المدينة أفضل من العيش في الريف بكثير.
ما أرمي إليه ليس مقارنة الحياة بين الريف والمدينة. أنا أعيش في منطقة ريفية تعد الأجمل في السويد وأمضي سويعات في الغابات لجمع الفطر والتوت والفواكه البرية وخزنها في البراد. الآن قد يتصور بعض القراء الكرام أنني أعيش في نعيم.
نعم يعد نعيما بقياس مستوى المعيشة ووسائل الراحة والاستجمام مقارنة بالفقر المدقع والظلم الذي يتعرض له مئات الملايين أو ربما أكثر من البشر. لدي من متاع حياة الدنيا ما يكفيني وأكثر. وقد لا أبعد عن الحقيقة إن قلت إن لدي من متاع الدنيا ما لم يكن في حوزة إمبراطور يحكم مملكة شاسعة في القديم من الزمان.
إي حاكم في التاريخ القديم كان له سيارة وكهرباء وإنترنت وماء جار وتدفئة وتبريد ومجار وجهاز هاتف نقال وتلفزيون وحاسوب ومطبخ مجهز بأحدث ما توفره شركة إيكيا السويدية العملاقة للمفروشات؟
ولكن هل أعيش حياة دون ضجيج؟ كلا. حياتي مليئة بالضجيج الذي صار يؤرقني أكثر من الضجيج والتلوث اللذين كنت أعانيهما إبان عيشي في المدينة المزدحمة قبل انتقالي إلى الريف.
وهذا الضجيج سيرافقك وسيرافقني ويدركنا حتى إن كنا في أبراج من العاج معلقة في السماء. إنه ضجيج الثورة الرقمية وثورة الذكاء الاصطناعي.
هذا الضجيج يبدو أنه لا مناص منه. كم شخصا اليوم، إن في المدينة أو في الريف، يُفسد نومه الهانئ العميق كي يلقي نظرة على هاتفه النقال؟ وهل تعلم الضجيج الذي يحتويه هذا الجهاز السحري؟ إنه يختزل الدنيا بمشكلاتها وحروبها وأخبارها وطرائفها وأغانيها وكل ما يخطر ولا يخطر في البال ويقدمها لنا على طبق شاشة صغيرة ليس في إمكاننا العيش ربما للحظات بدونها.
كم من الصور المرعبة التي تنقلها لنا هذه الشاشة الصغيرة وكم من الأخبار المحبطة تلقيها على مسامعنا؟
إنه عصر الضجيج الرقمي وهو أخطر من ضجيج المدينة. تلوث المدينة له عوارض صحية سلبية على جسد الإنسان، أما الضجيج الرقمي فإنه يؤثر سلبا في العقل والأعصاب ويؤرقها ويحرمنا من راحة البال؛ ويتغلبنا القلق بدلا من السكينة التي كنا نحصل عليها في الريف قبل غزوة الأجهزة الرقمية التي لن تقبل بأقل من أن نكون عبيدا لها.