مقياس القوة الاقتصادية والموارد غير الملموسة

في مناهج الاقتصاد هناك كثير من الثوابت التي بواسطتها تقاس منعة الأمم والبلدان من ناحية تملك ناصية القوة الاقتصادية.

وأذكر هنا حجم الاقتصاد مثلا. نقول إن الولايات المتحدة أعظم قوة اقتصادية في العالم، مستندين إلى قواعد أو مبادئ اقتصادية يجري حسابها عادة بدقة، وفي مقدمتها مثلا قيمة الإنتاج القومي الإجمالي الذي هو الأضخم في العالم.

وهناك أسس لرخاء الأمم الذي في الأغلب يتكئ على دخل الفرد السنوي. وهناك قواعد رصينة لحسابه.

وبطبيعة الحال، علم الاقتصاد يمنحنا قواعد أخرى عديدة لحساب أين تقع الأمم والدول في سلم المنعة والقوة الاقتصادية، منها الموارد الطبيعية، والصناعة بشتى أصنافها.

واليوم في الواقع لنا عديد من المعايير تقيس أين تقع الأمم والدول في حقول عديدة منها التعليم ومتوسط العمر وعدد الغرف الفندقية والترفيه وحتى لدينا معايير لتحديد أي شعب هو أكثر ابتساما وفرحا وسعادة من غيره.

ولدينا أيضا سلالم تقول لنا على أي درج نقف مع دولنا وشعوبنا في مضامير مثل حقوق الإنسان، عدد المساجين، حوادث الطرق، السرقات، الجرائم وهلم جرا.

والناس عامة تجذبها الأرقام والمؤشرات التي فيها تتسابق الأمم على تسلق درجاتها أو التموضع في أعلى مراتبها.

وتأخذ هذه المؤشرات الصدارة في نشرات الأخبار والتقارير في وسائل الإعلام المختلفة. وتتباهي الدول والشعوب في الاستشهاد بها وأكثر من تأخذه الغبطة هم الساسة والأحزاب الحاكمة حيث يعزون الوجود في أعلى السلم إلى سلامة وعقلانية وفعالية خططهم الاقتصادية والتنموية وطروحاتهم السياسية.

وإن حدث وهبط المؤشر أو تقهقر الموقع من أعلى السلم إلى أسفله كان ذلك بمنزلة حافز للمعارضة في إلقاء اللوم على الذين يمسكون بدفة الحكم أو الإدارة.

لن تختفي هذه المؤشرات الاقتصادية وأظن أنها ستبقى معنا ما دام علم الاقتصاد قائما.

بيد أنني أرى أن الاستناد إلى هذه المعايير وحسب في تقييم الشعوب والأمم والدول وحتى المجتمعات لن يفلح في منحنا صورة متكاملة عن واقع الحال وسنخفق في تقديراتنا عن مستويات عديدة تغفلها المعايير الاقتصادية المعتمدة حاليا.

هناك اليوم عديد من المؤشرات الاقتصادية تطمسها المعايير التي اعتدنا عليها. أسوق هنا بعضها وحسب لأن حصرها في مقال أمر غير وارد لسببين: أولا، عددها كبير، وثانيا، هي في ازدياد مطرد.

شخصيا أرى أن واحدا من أهم المعايير والمؤشرات على قوة اقتصاد بلد ما أو شعب ما يكمن اليوم في النظرة إلى الاستثمارات الأجنبية.

جذب الاسثتمارات الأجنبية من دول فائقة التطور في الصناعة والتكنولوجيا والزراعة والتعليم وغيره مؤشر مهم بيد أنه سيبقى قاصرا إن لم تكن هناك سياسات وخطط عملية لتوطين هذه الاستثمارات، أي: يتمكن البلد ليس فقط من نقلها بل تطويعها تصميما وصناعة وهندسة للوصول إلى إنتاج محلي يرقى الى مستوى الإنتاج المستورد لا بل يبزه.

أغلب المؤشرات الحالية عادة تعني بما يمكن ان نطلق عليه "الاقتصادات الملموسة" التي يصعب نقلها وتحتاج إلى مبالغ طائلة للاستثمار فيها.

لكن علينا التذكر أن هناك اقتصادات حديثة ذات تأثير فعال وكبير في الدورة الاقتصادية لم تعد تعتمد في دوران عجلتها على الماكينة الثقيلة بل على الرياضيات والخوارزميات التي تبدعها عقول المهندسين والمختصين بهذا الفرع من المعرفة الذي يبدو أنه صار طاغيا.

الشركات الخوارزمية تقود العالم اليوم، وعمليا ونظريا فإن البلدان لا تحتاج إلي استقدام استثمارات أجنبية ثقيلة لها ما لها من محاسن وما عليها من مساوئ.

اليوم نحتاج إلى عقول تصنع الخوارزميات وتديرها لإنتاج قوة اقتصادية غير ملموسة لأنها كامنة في العقول.

من هنا يصبح للتعليم والجامعات دور كبير في إدارة عجلة الاقتصاد الخوارزمي. مهندس الكمبيوتر والعارف بسر الخوارزميات دوره في عجلة الاقتصاد أكثر بكثير من مهندس آبار النفط مثلا.

وعليه، قوة الأمم الاقتصادية قد تقاس في القريب من الأيام بمكانتها في حقل الرياضيات وعلماء الخوارزميات وليس فيما تملكه من ماديات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي