نظرية اقتصادية موحدة حول الاستقواء

ترمب يعيد تشكيل النظام العالمي بالقوة الاقتصادية، فهل يقود أمريكا نحو الهيمنة أم الفوضى؟

  • اعتماد الدولار كعملة احتياطية هي قناة اقتصادية أساسية تستخدمها الدول الأخرى لاستغلال أمريكا
  • الولايات المتحدة بإمكانها الاستفادة من الرسوم الجمركية بفاعلية أكبر من غيرها بسبب حجم سوقها


هل يمتلك الرئيس دونالد ترمب خطة رئيسية لنظام عالمي جديد؟
قد يبدو للوهلة الأولى أنه شخص يعتمد بشكل أساسي على الحدس وليس على التخطيط المنهجي. ومع ذلك، فقد تمكن من الفوز بولاية ثانية في البيت الأبيض، وهذا يتطلب قدرا من التخطيط، كما أنه جاء بأجندة جريئة وواسعة النطاق. وإذا كان لديه بالفعل طموح جيوسياسي شامل، فمن الحكمة أن يُؤخذ بجدية.
في هذا السياق، تُعد قراءة مقال ستيفن ميران أمرا ضروريا، إذ يُعد ميران اقتصاديا معتمدا، ومديرا للأصول، وزميلا في "معهد مانهاتن" (Manhattan Institute)، وقد رشحه ترمب لرئاسة "مجلس المستشارين الاقتصاديين". وفي تقريره بعنوان "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي"، يناقش ميران الخيارات المطروحة لإحداث "تحول جذري في الأنظمة التجارية والمالية الدولية".
ورغم تأكيد ميران أنه لا يوصي بالضرورة بتبني الأفكار التي يناقشها، قائلا: "هذا المقال ليس دعوة لتبني السياسات"، فإن هذا التنصل لا يُؤخذ بشكل جدي. إذ أن السياسات التي لا يدعو إليها بالضرورة ستؤدي بالفعل إلى إعادة هيكلة جيوسياسية جذرية، وهي عملية متماسكة ومدروسة ومتسقة عادة مع المبادئ الاقتصادية التقليدية، لكنها في الوقت نفسه تنطوي على قدر هائل من المخاطرة.
تنبع هذه الرؤية بشكل مباشر من تفكير ونهج ترمب. وتستند إلى فرضيتين أساسيتين، الأولى أن العالم ينهب الولايات المتحدة، والثانية أن إصلاح هذا الوضع يتطلب اعتبار السياسة التجارية والصناعية والسياسة النقدية والسياسة الخارجية والأمنية كيانا واحدا وجعلها تعمل معا.

الدولار.. مشكلة أساسية

يعتقد ميران أن اعتماد الدولار كعملة احتياطية هي القناة الاقتصادية الأساسية التي تستخدمها الدول الأخرى لاستغلال الولايات المتحدة. وينظر معظم الاقتصاديين إلى هذا الوضع باعتباره ميزة للولايات المتحدة، بل وامتيازا باهظا، غير أن ميران يقر بأن الطلب على الدولار كعملة احتياطية قد يفيد الولايات المتحدة من خلال أسعار فائدة منخفضة "قليلا". كما أنه يمنح الولايات المتحدة القدرة على فرض العقوبات عبر النظام المالي العالمي.
لكن في المقابل، فإن الاعتماد العالمي على الدولار يؤدي إلى استمرار ارتفاع قيمته بشكل مزمن، ما يعزز الواردات ويخفض الصادرات ويخنق التصنيع المحلي ويسبب عجزا تجاريا مستمرا.
وهكذا، تبرز ضرورة خفض قيمة الدولار، لكن دون التسبب في تداعيات سلبية، خاصة على الولايات المتحدة نفسها.
من الواضح أن الرئيس يسعى إلى الحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية. فبصرف النظر عن فقدانه للفوائد التي ذُكرت للتو، فإن فقدان العملة لهيمنتها لن ينسجم مع رؤية "اجعل أمريكا عظيمة مجددا". (ترمب هدد بمعاقبة الدول التي تتخلى عن استخدام الدولار في أنظمة الدفع الخاصة بها). لكن في الوقت نفسه، إن خفض قيمة الدولار يُعد أمرا ضروريا.
يشرح ميران كيف يمكن للولايات المتحدة تحقيق هذين الهدفين معا من خلال استخدام أدوات أخرى من القوة الأمريكية. ويطلق على هذه الإستراتيجية اسم "تقاسم الأعباء"، وهو مصطلح يستخدمه لوصف نقل الأعباء الاقتصادية من الولايات المتحدة إلى عاتق دول أخرى.

الرسوم الجمركية.. أداة ضغط اقتصادية

تؤدي الرسوم الجمركية دورا رئيسيا في هذه الإستراتيجية، لكن دورها هنا يختلف عن دورها التقليدي. ووفقا للرأي السائد، فإن الرسوم الجمركية عادة ما تكون غير فعالة في تقليص الاختلالات التجارية، وذلك لسببين، أولهما أنها تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة (ما يجعل الواردات أرخص والصادرات أكثر تكلفة). والثاني، أنها تدفع الشركاء التجاريين إلى الرد بالمثل بفرض رسوم جمركية خاصة بهم على المنتجات الأمريكية. والنتيجة النهائية هي تراجع إجمالي حجم التجارة، مع بقاء العجز التجاري عند نفس المستوى تقريبا، فضلا عن تراجع المنافسة وتباطؤ نمو الإنتاجية.
الأمور تبدو مختلفة في النظام العالمي الذي يسعى إليه ترمب. فأولا، يمكن للولايات المتحدة الاستفادة من الرسوم الجمركية بفاعلية أكبر من غيرها بسبب حجم سوقها. وهذا يمنحها ميزة الاحتكار الشرائي، ما يُجبر الموردين الأجانب على خفض أسعارهم استجابة لذلك. وإذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لاستغلال ثقلها الاقتصادي، فبإمكانها تحقيق مكاسب على حساب شركائها التجاريين. ومن هذا المنظور، فإن ما تُعرف بـ"التعريفة المثلى" قد تبلغ نحو 20%، مقارنةً بمتوسط التعريفة الأمريكية الحالية البالغة 3% فقط.
تفشل هذه الحجة إذا قرر الشركاء التجاريون الرد بالمثل، لكنهم لن يقدموا على ذلك إذا تم استخدام تهديدات أخرى. فالرسوم الجمركية، سواء تم فرضها أو التهديد بها فقط، ليست مجرد وسيلة لحماية المنتجين الأمريكيين وزيادة الإيرادات، بل تُستخدم أيضا كأداة ضغط لإجبار الشركاء التجاريين على تقديم تنازلات ليس فقط فيما يخص الرسوم الجمركية، لكن أيضا في قضايا أوسع تتعلق بالسياسات الاقتصادية والأمنية.
يقول ميران: "يمكن للمرء أن يتخيل قائمة طويلة من المعايير التجارية والأمنية التي قد تؤدي إلى رفع أو خفض الرسوم الجمركية، بناءً على فكرة مفادها أن الوصول إلى السوق الاستهلاكية الأمريكية هو امتياز يجب كسبه، وليس حقا مكتسبا".
وتتضمن الأمثلة على هذه المعايير الاحتفاظ المفرط باحتياطيات الدولار، والتقاعس عن الوفاء الكامل بالتزامات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والانحياز إلى خصوم الولايات المتحدة في "النزاعات الدولية الكبرى"، إضافة إلى تبني "مواقف معادية لواشنطن في الساحة الدولية".

السياسات المالية أداة ضغط أخرى

في الوقت نفسه، يناقش ميران الخيارات المتاحة على صعيد السياسات المالية، حيث يمكن للولايات المتحدة الضغط على دول أخرى لدعم خفض قيمة الدولار من خلال بيع جزء من احتياطاتها الدولارية وإعادة هيكلة الحيازات المتبقية من سندات دولارية قصيرة الأجل إلى طويلة الأجل. هذا النهج قد يخفض قيمة الدولار بشكل معقول مع الحد من ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل على الدولار، التي عادةً ما ترتفع عند انخفاض قيمته، بجانب نقل مخاطر أسعار الفائدة من دافعي الضرائب الأمريكيين إلى دافعي الضرائب الأجانب، ما يُقلل الضغوط المالية الداخلية. وكما كانت الحال من قبل، يعتمد نجاح هذه الإستراتيجية على تقديم تهديدات فعالة.
يطرح ميران تساؤلاً مفاده "كيف يمكن للولايات المتحدة إجبار شركائها التجاريين والأمنيين على قبول مثل هذه الصفقة؟". وتابع: "أولاً، هناك العصا المتمثلة في الرسوم الجمركية، وثانيا الجزرة المتمثلة في المظلة الدفاعية والخوف من فقدانها".

ترمب يهدد النظام المالي

هناك عديد من التعقيدات الأخرى، خاصة بالنسبة إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي. يعترف ميران مرارا بمخاطر التقلبات المالية التي قد تنشأ نتيجة لرؤية ترمب، مؤكدا أن إدارتها سيتطلب خطوات منهجية حذرة. (وزير الخزانة سكوت بيسنت ناقش بالفعل إمكانية رفع الرسوم الجمركية تدريجيا وبقدر ثابت بدلا من فرض زيادات كبيرة دفعة واحدة).
ومع ذلك، إذا تعرضت الأسواق المالية لانهيار مفاجئ، فسيحتاج البنك المركزي إلى ضخ سيولة كبيرة، كما سيتعين عليه التعاون مع سياسة خفض قيمة الدولار عبر الامتناع عن رفع سعر الفائدة إذا أدى انخفاض العملة إلى ارتفاع التضخم. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو يشكل تهديدا محتملا لاستقلالية الاحتياطي الفيدرالي، ما يزيد من خطر حدوث فوضى مالية.
خلاصة القول، لا يسعى ترمب إلى مجرد إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي، بل إلى تفكيك شامل للنظام الجيوسياسي. فالتعاون الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب مشتركة بات يفسح المجال لسياسة الإكراه، سواء تجاه الأعداء أو حتى الحلفاء، سعيا لتحقيق مصالح أحادية الجانب. ومن الآن فصاعدا، يصبح الحلفاء تابعون يجب إخضاعهم، إذ يتعين عليهم تقديم الولاء وكسب امتيازاتهم.
لا يمكن القول إن نهج ترمب يفتقر إلى الترابط، بل إنه يتمتع بدرجة معينة من الاتساق. وكما هي الحال عادة، تستند أفكاره إلى نقاط واقعية، حيث يعد إخفاق أوروبا في تحمل مسؤولياتها الدفاعية شكوى مشروعة من جانب الولايات المتحدة. كذلك، فإن وضع الدولار كعملة احتياطية عالمية يحمل في طياته مزايا وعيوبا. لكن كما هي الحال دائماً، فإن هذه الحقائق الجزئية يتم دمجها داخل رؤية متطرفة قائمة على رفض متهور ومبالغ فيه للوضع الراهن، وضمن برنامج سياسي محفوف بالمخاطر الهائلة. في النهاية، فإن النظام العالمي وفق ترمب قد يكون وصفة لكارثة وشيكة.
خاص بـ"بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي