عصا السندات سلاح اقتصادي لمواجهة مطرقة الرسوم الجمركية الأمريكية
هل تقود تداعيات أزمة الرسوم الجمركية المفروضة من قبل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على الصين إلى حدوث قطيعة تجارية بين أمريكا والصين رغم حجم التبادل التجاري بينهما الذي بلغ 582.5 مليار دولار في 2024 بزيادة قدرها 1% عن 2023 ؟
سؤال طرحته "الاقتصادية" على خبراء اقتصاديين حول تصاعد الحرب التجارية بين البلدين بعد فرض الرسوم على الصين وعدد من الدول، ما أثار مخاوف واسعة من دخول الاقتصاد العالمي في ركود.
الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة دخلت حيز التنفيذ أمس الأربعاء ليصل بذلك إجمالي الرسوم المفروضة على واردات أمريكا من الصين إلى 125%.
الصين ردت برفع الرسوم الجمركية على السلع الأمريكية إلى 84% من 34% بدءا من 10 أبريل، في تصعيد جديد للحرب التجارية التي هزت أسواق العالم.
وزارة التجارة الصينية قالت: إن لدى بكين "إرادة حازمة ووسائل وافية" في خوض الحرب التجارية مع الولايات المتحدة، وفقا لوكالة الأنباء الصينية "شينخوا" اليوم.
كما هددت الصين بأنها ستتخذ بحزم تدابير مضادة وتقاتل حتى النهاية إن أصرت الولايات المتحدة على مواصلة تصعيد التدابير الاقتصادية والقيود التجارية.
خبراء اقتصاديون أوضحوا أن القطيعة بين واشنطن وبكين ليست مستبعدة نظريًا وغير مرجحة إلا في حالة تغير قواعد اللعبة بفعل الصراعات الجيوسياسية للهيمنة كجبهة تايوان.
مخاوف عدة يواجهها الاقتصاد العالمي المهدد بالانقسام والإغلاق وتراجع التجارة العابرة للحدود نتيجة سياسات "ترمب" الحمائية وفقًا للخبراء، حيث أشاروا إلى قدرة بعض الدول على مواجهة مطرقة الرسوم الجمركية بعصا حيازة السندات الأمريكية، ما قد يدفعها لاتخاذ خطوات تصعيدية ببيع السندات كأحد أبرز الأسلحة الاقتصادية.
كما تطرقوا إلى تكرار مساعي البيت الأبيض قلب طاولة التجارة الدولية على الصين بسلاح الرسوم الجمركية والتي وصفت بـ "الانتقامية"، ولا سيما بعد فشل واشنطن في تحقيق ذلك عبر بوابة منظمة التجارة العالمية.
حرب تجارية تعصف بالأسواق العالمية
قال لـ"الاقتصادية" رئيس مركز جواثا للاستشارات، الدكتور إحسان بوحليقة إنه ليس متوقعاً أن تتراجع الصين عن خطوتها، وما قد يحدث هو تحول الحرب التجارية إلى "مصارعة" بين العملاقين بما في ذلك تسخين جبهة تايوان، بما قد يتطور إلى مجابهة عسكرية.
الخبير الاقتصادي عضو الشورى رئيس اللجنة المالية سابقًا أشار إلى أن الصين تشكل التحدي الاقتصادي الحقيقي أمام الولايات المتحدة الأمريكية ولأي دولة أو تكتل اقتصادي، كونها تملك فائضا تجاريا مزمنا مع أمريكا، ولا يبدو في الأفق أن بوسع الولايات المتحدة التخلص منه.
وأضاف، أما عالمياً (وهذا الأمر الذي يسهد أو يؤرق الإدارة الأمريكية) هو أن الاقتصاد الصيني سيتصدر في غضون سنوات لا محالة.
وتابع: "أظن كل ما يقوم به الرئيس ترمب فيما يتعلق بالرسوم الجمركية هو مسعى لقلب "طاولة" التجارة الدولية على الصين وإعادة ترتيبها من جديد، بعد أن فشلت الولايات المتحدة من تحقيق ذلك عبر منظمة التجارة العالمية".
العالم يقف على أعتاب انقسام اقتصادي
بدوره قال الباحث في إيكولوجيا المنظمات والجغرافيا الاقتصادية الدكتور جمال العقاد: إن القطيعة الكاملة بين واشنطن وبكين ليست مستبعدة نظريا، لكنها لا تزال غير مرجحة، إلا إذا تغيرت قواعد اللعبة كليا بفعل صراع جيوسياسي كبير.
ورجح في حديثه لـ"الاقتصادية" استمرار التآكل التدريجي في العلاقات الاقتصادية، مع الحفاظ على حد أدنى من التبادل المرتبط بالمصالح الحيوية للطرفين.
العقاد أشار إلى أن السؤال الأخطر ليس "هل ستحدث القطيعة؟"، لكن هل سيتحول الاقتصاد العالمي إلى فضاء مقسم ومغلق تحكمه الجغرافيا السياسية لا الكفاءة الاقتصادية؟.
عدم اليقين يحكم المشهد الاستثماري
من جهته يعتقد أستاذ المالية والاستثمار في جامعة الإمام الدكتور محمد مكني أن رفع التعريفة الجمركية المتبادل بين أمريكا والصين يقود إلى تراجع عملية الإنتاج خصوصًا من المصانع في الصين، وفق حديثه لـ"الاقتصادية".
وعزا ذلك إلى تصنيع المنتجات الأمريكية خارج الولايات المتحدة، وهذا يعني مواجهة تلك المنتجات تحديًا في زيادة التكلفة الإضافية، وبالتالي يتوقع حدوث التضخم بكل تأكيد.
مكني استبعد استسلام الصين لقرارات ترمب، مبينا أن التعرفة الجمركية لن تكون أكثر حدة من كوفيد 19، حيث يتضح من خلال تصريحات كبار المسؤولين الصينين أن البلاد تعتزم تطبيق مبادئ المعاملة بالمثل، إضافة إلى الاعتماد على شركاء تجاريين آخرين لتصريف إنتاجها الصناعي، كما نجحت بكين سابقا في تخطي تداعيات أزمة كورونا.
وأضاف: "خلال العهدة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترمب واجهت الصين تحديًا مماثلًا ولا أعتقد أنها ستستلم للسياسة التي يريدها البيت الأبيض كي تصبح في موقف أكثر ضعفًا".
وتابع: "المعروف في تعاملات بكين مع التكتلات الاقتصادية الكبرى كدول مجموعة بريكس التركيز على عدم منح سيطرة مطلقة للولايات المتحدة سواء في القطاعات الصناعية أو التعاملات المالية".
أستاذ المالية والاستثمار أوضح أن لا حلول تلوح في الأفق على المدى القصير لأزمة الرسوم الجمركية سوى المفاوضات التي تتطلب وقتًا أطول لإيجاد حلول للتحدي القائم بين الدولتين والذي سينعكس سلبًا على الاقتصاد العالمي.
وحول مخاطر تداعيات أزمة الرسوم الجمركية على الاستثمارات، أكد تأثير نتيجة السياسات التجارية الأمريكية في سلاسل الإمداد، عبر رفع التكلفة على الشركات، وزيادة معدلات البطالة، ما يؤدي إلى تراجع الإنفاق والاستهلاك، ومن ثم أداء الأسواق المالية.
ولفت الخبير الاقتصادي أن الأزمة تمتد تداعياتها إلى الأسواق العالمية، بما فيها أمريكا واليابان والاتحاد الأوروبي، في ظل ترابط الاقتصاد الدولي، مبينًا أن الهبوط الحاد الذي شهدته الأسواق المالية بما فيها السوق السعودي والخليجي كان غير متوقع بهذا الحجم، لكنه أتى كنتيجة طبيعية لحالة عدم اليقين التي تحكم المشهد الاستثماري، ولا سيما وأن سلوك المستثمرين المتجه نحو البيع الكثيف يعد رد فعل منطقي في مناخ اقتصادي غير مستقر.
التجارة العابرة للحدود مهددة بالتراجع
من جهته أوضح خبير السياسات الاقتصادية الدكتور أحمد الشهري صعوبة حدوث قطيعة تجارية بين واشنطن وبكين نتيجة قوة التبادل التجاري.
الشهري أشار في ثنايا حديثه لـ"الاقتصادية" إلى أن استمرار الضغط قد يؤدي إلى انقسام اقتصادي عالمي الذي يقوده البلدين، بحيث تنحاز عدة دول مع المجموعتين، ولكن في الوقت نفسه تضعف الدول التي تعتمد على توازن البلدين.
مؤكدًا في ذات السياق أن تداعيات أزمة الرسوم الجمركية مقلقة اقتصاديًا ما لم تصل واشنطن وبكين إلى حلول لهذه الأزمة الاقتصادية الكبرى.
وحول تأثيراتها في الأسواق الدولية أشار الشهري إلى أن الرسوم الجمركية المتبادلة ستدفع الشركات إلى إعادة هيكلة سلاسل الإمداد، وهذا يرفع التكاليف بنسبة لا تقل عن 20%، ما سيؤدي إلى تراجع الكفاءة الاقتصادية العالمية نتيجة تراجع التجارة العابرة للحدود.
وتوقع خبير السياسات الاقتصادية قيام الدول التي تمتلك سندات أمريكية مثل الصين بخطوة تصعيدية عبر بيعها في مرحلة لاحقة كنوع من الرد.
وأضاف: "هذا يؤدي إلى رفع سعر الفائدة بنسبة ما بين 0.5% و1%، ما سينتج عنه ارتفاع تكاليف الاقتراض عالميا، وهو ما يخالف سياسات ترمب المعلنة نحو خفض سعر الفائدة، خاصة وأن القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والزراعة والسيارات والمواد الخام ستتأثر جميعا، رغم صعوبة القطيعة التجارية بين واشنطن وبكين بسبب قوة التبادل التجاري".