تطوير الأداء .. أفكار متجددة ومصطلحات براقة
يقضي توجه أي مؤسسة نحو التفوق، أو دخولها حلبة المنافسة مع مؤسسات أخرى، بالعمل على تطوير أدائها، لأن في ذلك وقودا لتفعيل مسيرة النجاح المنشود. ويحتاج تطوير أداء مؤسسة إلى التعرف على وضعها الراهن، ولكي يكون هذا التعرف واضحا، يجب أن يكون قابلا للقياس، وتبرز في هذا المجال مقاييس أو مؤشرات الأداء PI. وترتبط أبرز مؤشرات الأداء بفاعلية العمل وتحقيقه لأهدافه، وبكفاءة تنفيذه بحد أدنى من الإمكانات، وبرشاقة استجابته للمتغيرات. لكن هناك عديدا من مؤشرات الأداء المختلفة الأخرى التي تتبع الموضوع المطروح.
تضع كل مؤسسة طامحة إلى التفوق مؤشرات أساسية للتعريف بأدائها وقياس حالتها، من حيث مدى تقدمها نحو تحقيق أهدافها. ويعطى كل من هذه المؤشرات عادة قيمة مرجعية يؤمل الوصول إليها، وتعرف هذه القيمة بعلامة المجلس. ويعبر عن الفرق بين القيمة المقاسة لمؤشر من جهة، وقيمة علامة المجلس المرتبطة به من جهة أخرى، بالفجوة المطلوب إغلاقها عبر التطوير المطلوب للأداء. والفكرة الأساسية هنا هي أن المؤشر يرتبط عادة بهدف منشود يطلب تحقيقا، وأن علامة المجلس تتعلق بتحقيق هذا الهدف، لتعبر الفجوة المذكورة بالتالي عن مدى الابتعاد عن تحقيق الهدف المنشود.
شغلت مسألة تطوير أداء الأعمال بال أهل الإدارة في المؤسسات المختلفة العاملة في شتى المجالات، وارتبطت مسألة التطوير هذه بمفهوم الجودة في أداء العمل، بما يؤدي إلى جودة مخرجات هذا العمل أيضا. فإذا كنا حريصين على تطوير الأداء في أعمالنا فستتمتع هذه الأعمال بالجودة، وكذلك مخرجاتها. وطالما أن هذا الأمر يبدو بديهيا، فلعلنا نتوقع أنه كان مع الإنسان وأعماله المختلفة منذ القدم، خصوصا منذ حقبة الثورة الصناعية والتنافس على جودة الإنتاج. لكنه برز بوضوح على أرض الواقع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، حيث بدأت اليابان المهزومة في الحرب الاهتمام بتطوير أدائها للأعمال والحرص على جودة مخرجاتها. وجاء ذلك سعيا منها إلى الخروج من تداعيات الهزيمة وتلقيها قنبلتين نوويتين مدمرتين. حتى إنها وبإرادة الانطلاق نحو حياة جديدة، استعانت بخبراء في التطوير والجودة من أمريكا الجهة المنتصرة عليها في تلك الحرب.
كان وليم إدواردز ديمنج William Edwards، الملقب بأبي الجودة، أول الخبراء الأمريكيين الذين عملوا في اليابان على تطوير الأداء وتحقيق الجودة. واشتهر بتقديمه "14 توصية" في هذا المجال، كما اشتهر بخطوات التطوير الدورية الأربع المعروفة بالتخطيط، والتنفيذ، والاختبار، والعمل. وأسهم بمزيد من التوصيات في هذا الشأن عدد من الخبراء العاملين في هذا المجال. وفي زمن مقارب لتلك الفترة، وتحديدا في نحو 1954، قدم بيتر دركر Peter Drucker الملقب بأبي الإدارة، فكرة للتطوير تعرف بالإدارة بالأهداف. وتقضي هذه الإدارة بتوجيه العمل نحو ما يجب تحقيقه، مع مراعاة المراقبة والتقييم للحصول على أفضل النتائج.
توالت الأفكار المتجددة بشأن التطوير المستمر والجودة، وحملت أسماء براقة جاذبة للانتباه ومغرية في الوعود بالتطور والتميز والقدرة على المنافسة. من أمثلة هذه الأفكار فكرة إدارة الجودة الشاملة التي سعت إلى تحقيق الجودة على مستوى كامل مهمات المؤسسة ونشاطاتها. ثم كانت هناك فكرة إعادة هندسة إجراءات العمل التي تهتم بإعادة النظر في إجراءات العمل في المؤسسة المعنية وإعادة تصميمها لكي تتمتع بأداء أفضل. وبرزت أيضا فكرة الأبعاد الستة التي تسعى إلى عمل بلا أخطاء، أو بحد منخفض جدا منها، وتعطي خطوات دورية تطويرية، في هذا السبيل، مشابهة لدورة ديمنج، تعرف بخطوات التعرف والقياس والتحليل والتطوير والتحكم.
وهناك ثلاثة أساليب أخرى، في إطار ما سبق، تحظى حاليا بالاهتمام والشهرة. تشمل هذه الأساليب أسلوب مؤشرات الأداء الرئيسة، ويقضي بتنفيذ تقييم دوري لمؤشرات أساسية تعكس أهداف المؤسسة وتوجهاتها، بهدف التعرف على مكامن القوة ومواطن الضعف فيها واتخاذ الإجراءات اللازمة لتطوير المؤسسة وتحسين أدائها. وتتضمن هذه الأساليب أيضا أسلوب الأهداف والنتائج الرئيسة ويهتم بتحديد أهداف المؤسسة لتكون دليلا يتم من خلاله إيجاد متطلبات العمل والتطوير اللازمة لتحقيقها والخروج بالنتائج المرجوة، وبالطبع تبرز المؤشرات في هذا الأسلوب كدليل للتقييم والتوجيه. ثم هناك أسلوب الحوار ورد الفعل والاتفاق الذي يركز على القيام بإدارة مستمرة للأداء عبر الحوار وجمع الأفكار وتحديد التوجه المطلوب، والمؤشرات بالطبع وسيلة مهمة في ذلك.
ربما كانت هناك أساليب أخرى تدخل في إطار التطوير المستمر والجودة لم يتم ذكرها فيما سبق. والحقيقة هنا أن الأفكار التي طرحتها الأساليب السابقة هي أفكار متشابهة تتجدد بصياغات مختلفة، لتتنافس على الجاذبية في طرح المضامين، وشرح جوانبها المختلفة وفوائدها، وإطلاق أسماء براقة جديدة عليها.
وإذا أردنا وضع إطار مشترك لهذه الأساليب، لوجدنا أن هذا الإطار يتضمن خمسة عوامل رئيسة. يتمثل العامل الأول في الغاية المشتركة المنشودة وهي الالتزام بمبدأ التطوير المستمر لحالة المؤسسة وتحقيق الجودة والمحافظة عليها. ويتجلى العامل الثاني في التوجهات المطلوبة، حيث تبرز الأهداف ومتطلبات التطوير اللازمة للعمل على تحقيقها. ثم هناك عامل الوسيلة الذي يتضمن المؤشرات ودورها في القياس والكشف عن صورة الوضع القائم ومستوى التطوير الذي تم الوصول إليه. ويأتي بعد ذلك عامل "المسار" الذي يحدد خطوات العمل اللازمة ودورية تكرارها مع الزمن مع مراقبة ما يجري والاستجابة للمتغيرات، وتطوير العوامل ذات العلاقة. ونصل أخيرا إلى عامل "بيئة العمل" بما يشمل الأنظمة المتبعة واهتمام الإدارة العليا وإرادة العاملين وما يرتبط بذلك.
تطرح أدبيات جميع الأساليب السابقة معطيات ترتبط بهذه العوامل الخمسة، لكن بطرق وتوصيات وصياغات متفقة في الجوهر، ومختلفة في أسلوب العرض. ولعل الأمر الأهم في الاستفادة منها وتحقيق التطور المستمر المنشود يكمن أساسا ليس فقط في استيعاب المضامين والاستمتاع بطموحاتها، لكن في العمل الجاد على تنفيذها والاستفادة الملموسة من معطياتها.