كيف تستطيع الجامعات تفعيل تميزها المعرفي؟
قال لويس بلات Lewis Platt الرئيس الأسبق لشركة هيوليت باكارد HP، لو أن شركته عرفت ما لديها من معرفة لكانت إنتاجيتها قد تضاعفت ثلاث مرات. هذا القول بات شعارا رئيسا من شعارات إدارة المعرفة في المؤسسات، من منطلق سعي هذه الإدارة إلى إدراك المعرفة المتاحة لها في إمكانات العاملين فيها، وإدارتها بتميز، يؤدي إلى توظيفها ببراعة تحقق أفضل النتائج. ولم يطلق هذا الرجل قوله جزافا، بل سعى إلى تنفيذه، والاستفادة من معطياته. وتقول المصادر إنه استطاع في الفترة من 1993 إلى 1996 مضاعفة عوائد شركته بمقدار 187 في المائة، أي زيادة إنتاجيتها نحو مرتين.
ليست المعرفة لدى أي إنسان، مهما كان مستواه التعليمي، مخزنا ثابتا في محتواه، بل هي نبع متجدد، يأتي تجدده من قدرة الإنسان على التعلم المتواصل، واكتساب الخبرة، كما يبرز تجدده أيضا من تفكير الإنسان في مواجهة متطلبات الحياة المختلفة، وقدرته على الإبداع والابتكار، وتوليد المعرفة القابلة للتوظيف وتقديم الفوائد. وتتركز صفة التجدد المعرفي هذه بصورة خاصة في أصحاب المهن المعرفية، وعلى رأسهم أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الذين يتابعون مستجدات المعرفة، ويحرصون على البحث العلمي من أجل المشاركة في إضافة مزيد إليها.
يرتبط العمل المعرفي الجامعي بثلاث مهمات رئيسة. هناك المهمتان التقليديتان: التعليم والتدريب، والبحث العلمي. ثم هناك المهمة الثالثة التي تركز على خدمة المجتمع عبر: التعليم المستمر الذي يمكن أبناء المجتمع من التعلم مدى الحياة، وكذلك نقل التقنية إلى مؤسسات المجتمع القائمة، أو الناشئة، في الموضوعات المختلفة، وتفعيل الابتكار فيها، وتمكينها من توظيف المعرفة المفيدة، إضافة إلى التفاعل مع متطلبات المجتمع واحتياجاته المعرفية، ويشمل ذلك، على سبيل المثال، شؤون التخطيط المستقبلي وإقامة مراكز تفكير متخصصة تهتم بمسارات المستقبل، وغير ذلك من قضايا مهمة. وشهدت هذه الصفحة مقالا بعنوان "هل تستطيع الجامعات أن تعطي أكثر"، تحدث عن المهمة الثالثة هذه، والمشروع الأوروبي بشأنها، في الـ13 من أكتوبر 2016.
يمثل المدرس الجامعي منبعا معرفيا حيا للجامعات، وأداة فاعلة لها في تنفيذ مهماتها الثلاث، والارتقاء المعرفي بالمجتمع وأبنائه، والتفاعل مع قضاياه، بما يسهم في التنمية ويعزز استدامتها. ويمثل الطلاب الجامعيون، ضمن مختلف مراحل الدراسة الجامعية، المعطيات المعرفية الحية التي تقدمها الجامعة للمجتمع. ويجب عدم النظر إلى هؤلاء كساعين إلى تلقي المعرفة فقط، بل كمشاركين في تطويرها أيضا، بما يشمل شراكتهم في نشاطات المهمة الثالثة التي تأمل أن تشهد مزيدا من الاهتمام في مختلف الجامعات الطامحة إلى التميز في العطاء المعرفي والتفاعل مع المجتمع.
تحتاج الجامعات إلى إدارة فاعلة للمعرفة المتمثلة في الأساتذة والطلاب، من أجل الاستفادة منها، في أداء مهماتها الثلاث، على أفضل وجه ممكن. وشهدت هذه الصفحة في الـ13 من أغسطس 2015 مقالا حول توجهات الجامعات البريطانية بشأن "المدرس الجامعي وتفعيل عطائه المعرفي". وشملت هذه التوجهات، وضع ثلاثة مسارات لعمله الجامعي. ويتضمن كل مسار من هذه المسارات مهمات محددة، تمكن المدرس الجامعي من التوجه إلى المسار الذي يناسب مهاراته وإمكاناته، بل شغفه أيضا، دون أن يطغى مسار على آخر في مسألة الترقيات الأكاديمية، فكل المسارات تقود إلى موقع الأستاذية الأكاديمية، لأنها تسهم إسهاما رئيسا في عطاء الجامعة المعرفي المنشود.
تشمل المسارات الثلاثة التي تم تحديدها، مسارا يختص بالتعليم والتدريب، وآخر يركز على البحث العلمي، ثم مسارا ثالثا يختص بشؤون المهمة الثالثة والتفاعل مع المجتمع. ويسمح للمدرس الجامعي، باختيار المسار الذي يريد، بعد قضاء فترة أولية شاملة، تستغرق بضعة أعوام، يعمل فيها على المسارات الثلاثة معا، من أجل اكتساب خبرة شاملة تحيط بالمشهد الكامل للعمل الجامعي، قبل أن يستطيع اختيار المسار الذي يناسبه. وبالطبع تتكامل أعمال المسارات، عبر التعاون فيما بينها، لتغطي مختلف الطموحات الجامعية في التميز في مجالات التعليم والتدريب، والبحث العلمي، ونشاطات المهمة الثالثة سابقة الذكر.
يؤدي اختيار مسار واحد للعمل إلى تركيز أكبر في جهود المدرس الجامعي، يبعده عن التشتت بين المسارات. فكثير من الجامعات يتبنى مثل هذا التشتت، حيث تريد من المدرس فيها أن يجمع بين تدريس المقررات، والإشراف على مشاريع التخرج والرسائل البحثية، دون أن تؤدي زيادة التدريس، إلى الحد من الإشراف، أو ربما زيادة الإشراف إلى الحد من التدريس. وتضاف نشاطات المهمة الثالثة إلى كل ذلك، ربما دون أن تحتسب، في كثير من الأحيان" بين أعبائه. وقد يكون هذا التشتت مفيدا في بداية عمل المدرس، لكي يدرك ويجرب مختلف جوانب العمل الجامعي، ويختار المسار الذي يستطيع التميز فيه. وتبرز، في هذا الإطار، الحاجة إلى مبدأ إدارة المعرفة الذي يسعى إلى تفعيل إنتاجية العمل المعرفي، كما وكيفا، وتعزيز الاستفادة منه على أفضل وجه ممكن.
ولا شك أن للتركيز دورا مهما في إدارة المعرفة والاستفادة منها بالشكل المأمول، خصوصا عندما يكون مسار التركيز متاحا ومرتبطا باختيار صاحب العلاقة، وتوجهه الذاتي. ويسمح هذا الاختيار للجامعة بفهم توجهات منسوبيها، وتكليفهم بالأعمال والنشاطات المناسبة لتفعيل عطائهم، وتعزيز تميزهم، مع تجنب هدر إمكاناتهم. ويؤدي مثل هذا التميز إلى إنتاجية معرفية مفيدة أكبر، كما طرح "لويس بلات".
لا شك أن الجامعات المتطلعة إلى التميز تسعى إلى تحقيق هذا التميز، ليس فقط في التعليم والتدريب والبحث العلمي، لكن أيضا في مجالات المهمة الثالثة التي تتضمن الاهتمام بالتعليم المستمر، ونقل التقنية والابتكار إلى المجتمع، والتفاعل مع متطلباته. ويحتاج ذلك إلى إدارة ينابيع المعرفة لديها، والمتمثلة بصورة رئيسة في أعضاء هيئة التدريس فيها، بشكل مناسب يعزز إنتاجيتهم في تنفيذ هذه المهمات المطلوبة. ولعل الوسيلة إلى تحقيق ذلك تكمن في إتاحة فرصة التركيز لكل من هؤلاء على العمل المنتج المتناسب مع توجههم وشغفهم، خصوصا عندما تأتي هذه الفرصة بعد مدة من تجربتهم في العمل الجامعي بمهماته الثلاث.