خصوصية مجتمعنا فخر لكل مواطن فيه (2 من 2)

يكفينا شرفا هنا أن نكون في حمى الحرم وينطلق من وطننا نداء الإسلام إلى العالم الإسلامي وإلى كل مسلم في كل أرض من أرض الله الشاسعة. ألا نستشعر عظمة هذه المسؤولية؟؟ ألا تمنحنا هذه الرسالة أعلى مستوى من الخصوصية الدينية والثقافية فنحترمها ولا نسمح لمن في قلبه مرض أن يستهزئ بها ويجعلها شعارا للتنصل من الثوابت والالتزام السلوكي، فنجد أن المسلسلات السخيفة التي تزدحم بها بعض القنوات تركز على أن توظف (الخصوصية السعودية)، كما يطلقون عليها في سياقات النكت والسخرية، وبعض المذيعات والضيوف أجدهم يرددون هذه الأكاذيب التي تنفي عن هذا المجتمع هذه الخصوصية الربانية التي تفرض أن نكون جميعنا خدما لها لا أن نرفضها ونلوي أعناق المعاني كي تستقيم مع الترهات الكلامية التي يرددها أساتذة في التاريخ!! وليس فقط بعض البسطاء فكريا.
نحن هنا أعزاء بهذا الحرم مكانا وأرضا، ومن يتدبر القصص القرآني بعين وعقل واع سيجد أن تميز هذا الوطن يستمد من كونه احتواء لما في الآية الكريمة (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) المائدة: من الآية 97، فكما ذكر الدكتور سلمان العودة في برنامجه (حجر الزاوية): (إن الله تعالى جعل الكعبة قواماً وقيماً وقياماً للناس يعني هناك الدور الفردي بالممارسة التعبدية والسلوكية والأخلاقية التطهرية الذي ندعو إليه، هناك أيضاً الدور الجماعي أو الدور الأممي (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ) المائدة: من الآية 97، أنا ألتمس من هذه الآية الكريمة أنه هنا في هذا المكان بالذات من بين أي مكان آخر في العالم الإسلامي بل في العالم كله تتوافر عوامل نهضة شاملة وصادقة، هنا مكان اختاره الله - عز وجل - واختاره على علم على بقاع الأرض كلها فهو يباهي بقاع الأرض كلها بما فضله الله تعالى، هنا الطيبات (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) إبراهيم: من الآية 37، هنا نلاحظ أن البترول أصبح قريباً من هذا المكان فهو جزء من دعوة إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - يجعل أهل هذه البلاد بخير وبركة، هنا قضية الجوانب البيئية الطيبة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غيرما حديث من الأحاديث، هنا التاريخ العريق الطويل منذ آدم -عليه السلام - إلى إبراهيم أبي الأنبياء إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث بعثته هنا في هذا المكان على وجه الخصوص الذي شهد أول دعوة نبوية محمدية إلى التوحيد قبل الهجرة، هنا أيضاً الجغرافية ذاتها التي جعلت من مكة مركزاً للكون ومنطلقاً للكرة الأرضية وهناك دراسات عديدة وجميلة في هذا الخصوص). ويكمل الشيخ الدكتور سلمان حديثه: (أعتقد أن هذا يُحملنا مسؤولية ضخمة جداً أن نتحدث عن مشروع نهضوي ينطلق من مكة المكرمة، تحويل مكة إلى بلد نموذجي، إلى بيئة آمنة، إلى هوية خاصة شعارها الدار والإيمان، ينطبق هذا على أهل مكة على أحياء مكة المختلفة على الخدمات بمكة على أخلاقيات على الأداء على التعاطي على الخدمات المختلفة، فهنا سنكون أمام مشروع تاريخي يُثيبنا الله تعالى عليه ويحمدنا عليه الناس في هذه الدار الدنيا وينطلق من القيم القرآنية، وأنا كلما قرأت القرآن الكريم ووجدت أن الله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ) المائدة: من الآية 97، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) البقرة: من الآية 125، وقرأت حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البلد عرفت أن اختيار الله تعالى لهذا البلد يدل على أنه سوف يؤدي دوره مرة بعد مرة بعد أخرى وأن بالإمكان أبدع مما كان وأنه على رغم ما يكون في مكة من الخدمات الآن ومن الفضائل ومن المصالح ومن التوسعة إلا أننا نستطيع الأفضل إذا حاولنا وهذه الآيات هي تحفيز لنا ودعوة لنا إلى أن نحاول الأفضل فعلاً).
هذا ما يتعلق بمكة المكرمة وقدسيتها، وما يرتبط بالمدينة المنورة هو بعد ضوئي آخر يثير في النفوس المؤمنة الاعتزاز وأننا من أبناء هذا الوطن الذي فيه الحرمان الشريفان.
بعضنا كما يبدو ولأنهم يعيشون في هذه الأرض الطاهرة ضعفت لديهم ملكة استشعار عظمتها ومدلولاتها الإيمانية والتاريخية، ولهذا أصبح الأمر بالنسبة لعيشهم عليها عاديا لا يدعو إلى انبثاق الدموع من العيون عندما يشاهدون الكعبة والطائفين حولها أو يزورون المسجد النبوي ويصلون في الروضة الشريفة وتقشعر أجسادهم تلك القشعريرة التي يعيشها كل من زار المسجد النبوي وحظي بالصلاة في الروضة الشريفة أو وقف أمام قبر خاتم الأنبياء حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليسلم عليه ويعرف أنه سيرد عليه السلام.
وقد لمست هذا مرات عديدة، أن تشاهد البعض من السعوديات يتحدثن ويتضاحكن ونحن في انتظار دورنا كي نصلي في الروضة!! وهناك بجانبهن نساء قادمات من بلاد بعيدة ويبدو أنهن تكلفن الكثير كي يتمكن من الزيارة وهن يبكين بحرقة من السعادة ومن الخشوع!!
وكما نعرف أن المدينة المنورة تحتل مكانة جليلة بين مدن العالم الإسلامي، ولها قدسيتها وخصوصيتها في قلوب المسلمين، فهي دار الهجرة ومهبط الوحي ومثوى رسول الله وفيها مسجده الشريف، وهي دار المجتمع الإسلامي الأول وسيدة البلدان وعاصمة الإسلام الأولى، تجتمع فيها معالم تاريخية ومعان إيمانية جمة، وتملأ أمجادها وفضائلها الأسماع والأبصار، وقد ورد في فضلها وتحريمها أحاديث نبوية كثيرة تبين جوانب هذه الفضائل، فعن عبد الله بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة، وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله قال: من أخذتموه يقطع من الشجر شيئاً (يعني شجر الحرم) فلكم سلبه لا يعضد شجرها، وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المدينة حرم، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف). وللمدينة أسماء كثيرة تدل على مكانتها العالية في قلوب المسلمين، فهي عاصمة الإسلام الأولى، ومثوى جسد الحبيب الأعظم محمد، وقد تتبع المؤرخون هذه الأسماء فأوصلها بعضهم إلى مائة اسم، غير أن الأسماء التي وردت في الآثار الصحيحة وخاصة القرآن الكريم والحديث النبوي دون ذلك بكثير، وأما بقية الأسماء فيبدو أنها اشتقت من بعض صفاتها ومن الأحداث الجليلة التي مرت بها ومن مكانتها العالية، أما الأسماء التي وردت في الآثار الصحيحة فهي يثرب، المدينة، طابة، طيبة، الدار والإيمان.
ومن صفاتها وبعض الأحداث التي وردت عنها سميت المسكينة، الجبارة، المجبورة، الجابرة، المحبوبة، القاسمة، دار الأبرار، دار الهجرة، دار السلام، دار الفتح، المختارة، الصالحة، المنورة، دار المصطفى، قرية الأنصار، ذات النخل، سيدة البلدان، ذات الحرار، دار الأخيار، المرحومة، الخيرة، الشافعة، المباركة، المؤمنة، المرزوقة. هذه الأسماء تسهم في تعميق مكانتها في قلوب المسلمين وتوحي بالعزة والأمن والسلام.
وفيها المسجد النبوي الشريف ثاني الحرمين الشريفين وأهم معالم المدينة المنورة وثاني مسجد تشد إليه الرحال، اختار موقعه رسول الله إثر وصوله إلى المدينة مهاجراً وشارك في بنائه بيديه الشريفتين مع أصحابه رضوان الله عليهم وصار مقر قيادته وقيادة الخلفاء الراشدين من بعده، ومنذ ذلك التاريخ وهو يؤدي رسالته موقعاً متميزاً للعبادة، ومدرسة للعلم والمعرفة، ومنطلقاً للدعوة، وهناك مساجد عديدة فيها والمواقع التاريخية للغزوات والانتصارات. هناك آثار متميزة تحتويها المدينة المنورة لم تجد اهتماما يليق بها ويحفرها في ذاكرة الأبناء والذين يقرؤون السيرة النبوية ولا يرون مواقعها الموجودة في وطنهم. وأتفق مع الدكتور أحمد العيسي فيما ذكره أن: (عدم الاهتمام بهذه الأماكن التاريخية في بلادنا لا يليق بديننا ولا بمجتمعنا ولا بدولتنا ولا يليق بحضارتنا الإسلامية، فكما أن الله قد أمرنا في آيات كثيرة، في كتابه الكريم بالسير في الأرض والتبصر والتأمل في حضارات الأمم والاستفادة من تاريخها ونعتبر بمصيرها، فإن زيارة تلك الأماكن والاطلاع عليها يضيف إلى الإنسان مزيداً من المعرفة والحكمة والتبصر في أحوال الدنيا وفي عواقب الزمن وفي عظمة الإنسان وقوة إرادته وفي الوقت نفسه ضالته أمام حركة التاريخ وأمام إنجازات الآخرين).
** أردت بهذا الاستعراض أن أعمق الوعي بقدسية الأرض التي نعيش عليها فنتأكد أن خصوصيتنا تستمد من هذه القدسية التي تفرض علينا أن نكون ممن ذكرهم الله في كتابه؛ (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)، ولا تختص بعاداتنا أو بانحراف بعض سلوكياتنا التي تمثل قاسما مشتركا بين البشر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي