الصين وصراعها مع مجتمع استهلاكي
إن أقل وصف تستحقه البراعة الهندسية التي تتمتع بها الصين هو أنها غير عادية. فمن البنية الأساسية العالمية المستوى والمدن الصديقة للبيئة إلى أنظمة الفضاء والقطارات الفائقة السرعة، لعب تراكم رأس المال المادي المتقدم إلى حد الإبهار في الصين دورا مهيمنا في دفع اقتصادها إلى الأمام. لكن إنجازات الصين الهندسية المادية على جانب العرض لم تكن قابلة للتحول إلى جهود هندسية اجتماعية على جانب الطلب، وخاصة في تحفيز الطلب الاستهلاكي.
ينشأ هذا الانفصال عن النظام السياسي الصيني الحديث، الذي يؤكد على الاستقرار والسيطرة. ففي حين عمل هذا التركيز على تمكين الصين من أن تصبح "الـمُنتِـج الأساسي" على مستوى العالم، فإنها لم تكن ناجحة في الكشف عن الحمض النووي للمستهلك الصيني. تتناقض الهندسة الاجتماعية من خلال إملاءات الحكومة بشكل حاد مع الروح الفردية الطليقة القائمة على الحوافز والتي تشكل السلوك البشري وأنماط الاستهلاك في الغرب. ومع بقاء حصة الاستهلاك الأسري في الناتج المحلي الإجمالي الصيني عند مستوى أقل من 40%، مقارنة بنحو 65% في الاقتصادات المتقدمة، فإن الصين ليس لديها إلا أقل القليل لتظهره مقابل خطابها الذي دام طويلا حول إعادة التوازن بقيادة المستهلك.
الواقع أن التجربة الأمريكية، كما وَثَّـقَها جون كينيث جالبريث في كتابه "مجتمع الوفرة"، تفك شفرة الحمض النووي للمجتمع الاستهلاكي. وتشمل سماته الرئيسية، الحراك الاجتماعي الصاعد في الدخل والثروة، والاتصالات المفتوحة ونشر المعلومات، والفردية وحرية الاختيار، وتقلص فجوة التفاوت في أنماط الحياة، ونقل الثروة بين الأجيال، وفي نهاية المطاف القدرة على انتخاب الممثلين السياسيين. الواقع أن النزعة الاستهلاكية الغربية تشكل إلى حد كبير فرضية طموحة.
في نهاية المطاف، من الأسهل كثيرا حشد آليات الدولة لفرض النفوذ على المنتجين من السماح بالحريات الأساسية لتمكين المستهلكين. يعود هذا إلى أيام الجمهورية الشعبية الأولى، عندما كان المنتجون الصينيون خاضعين للسيطرة الصارمة التي فرضتها لجنة التخطيط الحكومية. ويَـصدُق هذا مرة أخرى اليوم حيث ارتد اتجاه قوة الصين الاقتصادية من القطاع الخاص الديناميكي الريادي إلى الشركات المملوكة للدولة.
بوسعنا أن نجد مثالا آخر على هذا التناقض بين الطموح والعقلية التنظيمية في محاولات الصين المتكررة في التصدي للرياح الديموغرافية المعاكسة وراء انكماش قوة العمل، والتي من المقرر أن تتراجع حتى نهاية هذا القرن، بسبب إرث سياسة تنظيم الأسرة المهجورة الآن، والتي كانت تقضي بإنجاب طفل واحد. أخيرا، أعلنت الحكومة الصينية عن تدابير لتعزيز معدلات المواليد، بما في ذلك تحسين الدعم للولادة، وتوسيع القدرة على رعاية الأطفال، وغير ذلك من الجهود لبناء مجتمع "صديق لزيادة المواليد".
يتمثل المفتاح لإطلاق العنان لإمكانات المستهلك في الصين في تحويل الخوف إلى ثقة، وهو التحول الذي لا يتطلب أقل من تحول جوهري في العقلية التي تؤطر عملية صنع القرار في الأسر ذاتها. ولكن هنا على وجه التحديد تعثرت الحكومة. ذلك إن تحفيز السلوك البشري يختلف جذريا عن إلزام البنوك التي تديرها الدولة بزيادة الإقراض لمشاريع البنية الأساسية أو إلزام الشركات المملوكة للدولة بالاستثمار في العقارات.
أعترف بأنني أقدم منظورا غربيا لمشكلة صينية، وقد علمتني التجربة أن مثل هذه المشكلات تحتاج إلى دراسة من منظور الصين ذاتها. وحتى برغم هذا، فإن زيادة الاستهلاك تمس جوهر التجربة الإنسانية، فهل من الممكن أن تزدهر ثقافة استهلاكية ذات خصائص صينية تتناقض مع الروح الطموحة التي تقوم عليها المجتمعات الغربية؟
ربما يتوقف الحل النهائي لمشكلة نقص الاستهلاك المزمن في الصين على هذه الاعتبارات العميقة للسلوك البشري. وقد ألمح اجتماع عقد أخيرا في إطار مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في الصين إلى حافز استهلاكي كبير آخر قادم. ولكن إذا ظلت السلطات الصينية ثابتة في إحكام السيطرة على المعايير الاجتماعية والروح الإنسانية، فإن كل التحفيز في العالم ــمن حملات المقايضة إلى إصلاحات شبكة الأمان الاجتماعي ــ قد يذهب سدى.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.