ما الذي يجعل أزمة النرويج السياسية مشكلة كهرباء أوروبية؟
إن الاتجاه نحو التكامل وتحرير سوق الكهرباء في المنطقة الذي استمر 30 عاماً أصبح معرضاً للخطر
- إخفاقات سياسة الطاقة الألمانية تتحملها دول الجوار اقتصادياً وكذلك سياسياً
- القارة الأوروبية بحاجة لبناء قدرات توليد مستدامة فيما تستمر بالتحول نحو الطاقة المتجددة
ربما الأمر غير بديهي، لكن كي تفهم الأزمة الحكومية التي تهز النرويج، قد يفيد اتقان اللغة الألمانية. لأنه، بغض النظر عن الخصوصيات المحلية والمناورات الحزبية السياسية، لا يمكن فهمها دون معرفة كلمتين ألمانيتين حاسمتين اليوم في السياسة والشركات الأوروبية وهما (energyiewende) و(dunkelflaute) وتعنيان على التوالي تحول الطاقة وسكون الرياح.
لعل ما كان ينبغي لزعماء الاتحاد الأوروبي في خلوة مناقشات غير الرسمية يوم الإثنين في قصر دي إيغمون في بروكسل أن يتنبهوا إليه هو الاضطرابات في شمال القارة، وتلك الكلمتين الألمانيتين.
لا يتعلق الأمر بالسياسة في المنطقة الإسكندنافية، إذ إن الاتجاه الذي ساد 30 عاماً للتكامل وتحرير سوق الكهرباء الأوروبية أصبح في خطر.
إن (Energiewende) هي النسخة الألمانية من التحول في مجال الطاقة الذي دافعت عنه المستشارة السابقة أنغيلا ميركل: إغلاق محطات الطاقة النووية والاعتماد على الطاقة المستجرة من الرياح والشمس، وقد دعمت كل هذه التوجهات حكومات يمينية ويسارية متعاقبة بإعانات سخية. أما (Dunkelflaute) فهي فترة من الطقس الغائم وساكن الرياح ينخفض خلالها إنتاج الطاقة المتجددة.
المشكلة الألمانية
إن الجمع بين الكلمتين يعني أن شبكة الكهرباء الألمانية أصبحت اليوم أكثر اعتماداً على الطقس من أي وقت مضى. إن عدم توليد الحمل الأساسي الكافي الذي يعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع والافتقار لمحطات يمكن برمجة إنتاجها حسب الطلب، يجعل برلين تعتمد على الاستجرار من دول الجوار لسد عجوزات فترات الشتاء التي تتلبد بها السماء بالغيوم وتسكن الرياح.
في النرويج، تصادم المصطلحان فارتفعت أسعار الكهرباء المحلية، إذ تصدر البلاد كمية متزايدة من الطاقة عبر كابلات عابرة للحدود. وكان متوسط أسعار الكهرباء بالجملة في 2023 و2024 أعلى بما يفوق 50% في جنوب النرويج مقارنة بالفترة بين 2010 و2020. بلغت المشكلة ذروتها الأسبوع الماضي عندما ناقشت أوسلو ما إذا كانت ستعتمد قواعد الاتحاد الأوروبي الجديدة، المعروفة باسم الحزمة الرابعة للطاقة النظيفة، وهي مهمة لتعزيز اعتماد مصادر الطاقة المتجددة.
نفى حزب الوسط المتشكك في اليورو دعمه للتدابير يوم الخميس وتخلى عن الحكومة الائتلافية التي حكمت البلاد لمدة 3 سنوات ونصف، تاركاً القيادة تترنح. سيكون حزب العمال من يسار الوسط الآن بمفرده في أول حكومة أقلية للحزب منذ 25 عاماً، قبل انتخابات 8 سبتمبر.
توتر عال
المشكلة معقدة وبسيطة في آن معاً. بفضل الكابلات العابرة للحدود، وهي عجائب هندسية غالباً ما توضع في قاع البحر وتكلف أكثر من مليار دولار لكل منها، أصبحت سوق الطاقة الأوروبية أكثر كفاءةً بكثير مما كانت عليه قبل تحريرها في منتصف التسعينيات.
لكن الكفاءة لها معنيان متباينان في مجالي الاقتصاد والسياسة. اقتصاداً تعني "متوسط أسعار أقل للجميع"، وسياسةً تعني "أسعار أقل فقط لناخبينا". نقطة الانصهار هنا هي أن الناخبين النرويجيين يدفعون أسعاراً أعلى للكهرباء حتى لا يواجه الألمان تكاليف أعلى.
خلافات الربط
جاء انهيار الحكومة النرويجية بعد أشهر من الخلاف بين السويد وألمانيا بعد رفض ستوكهولم طلب برلين بناء ربط آخر عبر الحدود. في 2023، رفضت النرويج طلباً بريطانياً لكابل بحري إلى إسكتلندا. والأمر الحاسم هو أن أيا كان الفائز في الانتخابات النرويجية المقبلة، فيُرجح أن يتخلص من زوج من الكابلات عمرهما 50 عاماً ويربطان النرويج بالدنمارك. إن حدوث ذلك يعني أن خطوط الربط عبر الحدود الأخرى قد تكون في خطر عندما تصل إلى نهاية عمرها الافتراضي، وأن المشاريع الجديدة التي ستحل محلها -فضلاً عن توسيع القدرة إلى ما هو أبعد من التصميم الحالي- قد لا تُبنى أبداً.
تشعر الدول الاسكندنافية على نحو متزايد بأنها تدفع تكاليف إخفاق سياسة الطاقة الألمانية، وهي سياسة لم يكن لها رأي بشأنها برغم أنها تؤثر فيها. وبدأت فرنسا تشعر بمثل ذلك ومعها النمسا وبولندا، وحتى أن اليونان تشكو.
إن أسعار الكهرباء المرتفعة وشديدة التقلب تُسعد تجار السلع الأساسية، لكنها تسبب الفوضى في قطاع التصنيع الذي يعتمد على الطاقة بكثافة وتثقل كاهل الأسر التي تعاني أزمة تكاليف المعيشة. المشكلة تعم أوروبا حقاً، ولا علاقة لها بعضوية الاتحاد الأوروبي. وهذا يضع كثيراً من الافتراضات المتعلقة بأهداف الكهرباء الخضراء لعامي 2030 و2035 موضع شك، وهي تعتمد على سوق إقليمية فعالة ومترابطة. إن الحل يتطلب جهداً أوروبياً شاملاً وليس على المستوى الوطني فحسب. وحتى الآن لم يتوصلوا إليه.
ساسة يعرقلون الحلول
الواقع أن المشكلة لا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام لأن كثيراً من المدافعين عن البيئة والسياسيين اليساريين يشعرون بأن الأحزاب المتشككة حيال أوروبا ومنكري المناخ اليمينيين يستخدمون هذه القضية لحشد الناخبين. إنهم يفعلون ذلك حقاً، لكن هذا لا ينفي أن سوق الكهرباء الأوروبية اليوم تعاني خللا وظيفيا، وأن الأسعار مرتفعة بشدة، وأن تكاليف الطاقة في أوروبا في تزايد مستمر.
إن الافتقار إلى الحمل الأساسي والتوليد القابل للبرمجة ينبغي أن يكون مصدر قلق. إن السوق ترسل إشارة استغاثة. وسيكون السماح للأطراف المتطرفة باستغلال المشكلة لصالحها دون محاولة حلها خطأً فادحاً.
ينبغي لبرلين أن تضمن امتلاك قدرة محلية كافية لتبقى الأضواء مضاءة دون فرض عبء ثقيل على جيرانها كل شتاء. وهذا يعني إبقاء محطاتها العاملة بالفحم مفتوحة لفترة أطول كثيراً مما تخطط له حالياً والاستثمار بشكل عاجل في جيل جديد من محطات الغاز القابلة للبرمجة. كان ينبغي لألمانيا ألا تغلق محطاتها النووية أبداً، ولكن الآن فات الأوان. والمؤسف أنني لا أعتقد أن البلاد يمكنها أن تنتظر لأكثر من عقد كي تبني جيلاً جديداً من المفاعلات.
كما أن الدول الإسكندنافية ليست بريئة وأمامها عمل ينبغي النهوض به أيضاً. إن نقل الطاقة المحلية من شمال النرويج والسويد إلى جنوب الدولتين ضعيف. وهناك حاجة إلى مزيد من الروابط الإقليمية. في حين تدفع هذه الدول ثمناً أعلى مقابل الكهرباء، فإن التكلفة المتوسطة تظل منخفضة وفقاً للمعايير الأوروبية.
في الولايات المتحدة، أعلن الرئيس دونالد ترمب "حالة طوارئ في مجال الطاقة" دونما داعٍ، أما في أوروبا، ما يزال القادة يتجاهلون حالة طوارئ حقيقية جداً. وينبغي أن تكون حال النرويج جرس إنذار.
خاص بـ"بلومبرغ"